مقالات في السيرة النبوية(8)

[CENTER]المقال الثامن:

8-تعامل النبي –صلى الله عليه وسلم- مع المؤمنين والمنافقين[/center]




[FONT=Simplified Arabic][COLOR=#000080]

[/color][/font]أولاً: تعامله مع المؤمنين: فهؤلاء يلاقيهم في بشر وطلاقة مُحيَّاً، ويخالطهم في تواضع، ويحمل لهم من الرحمة ما هو أرق من النسيم، وأجود من الغيث العميم.
أما البشاشة وطلاقة المحيا فقد جاء في الصحيح عن جرير بن عبدالله البجلي أنه قال: “ما حجبني[1]رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم”.[2]
فالذين يلقون ذوي النفوس الطاهرة في كُلُوحٍ وانقباض بعلة المحافظة على الوقار - لم يهتدوا إلى السيرة الحميدة سبيلاً.
وأما التواضع فقد قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خُلُقاً وإن كان ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير يقال له: أبو عمير: “يا أبا عمير ما فعل النغير[3]”.[4]
فالذين يخرجون للناس في وجوه عليها غبرة الكبرياء إنما يلقون قلوباً نافرةً، وألسنةً ساخرةً، ولقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة لو شاؤوا أن يكونوا أجلاء محترمين.[5]
وأما الرحمة فقد قال -تعالى- في كتابه الكريم: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128).
وحدثنا عن هذه الرحمة مالك بن الحويرث إذ قال: أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن شَبَبَة[6] متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أننا اشتقنا أهلنا، وسألنا عمن تركنا وراءنا من أهلنا فأخبرناه، وكان رقيقاً رحيماً، فقال: “ارجعوا إلى أهليكم، فعلموهم، ومُرُوهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي”.[7]
ثانياً: تعامله مع المنافقين: وهؤلاء كان -عليه الصلاة والسلام- يعاملهم بما يشبه معاملة المهتدين من الرحمة، والرفق، والإحسان، ومقابلة الإساءة بالعفو أو الإحسان؛ فكان يعاملهم على ظواهرهم دونما بحث عما تُكِنُّه سرائرهم، وتنطوي عليه دخائل نفوسهم.
ويشهد لذلك حوادثُ كثيرةٌ، ومن أجلاها مواقفه العظيمة مع رأس المنافقين عبدالله بن أُبَيِّ بنِ سلول الذي آذى النبي-صلى الله عليه وسلم-أيما أذية؛ حيث آذاه في بيته كما في قصة الإفك - فهو الذي تولى كبره، وأشاع قالة السوء عن عائشة -رضي الله عنها-.
وهو الذي رجع بمن تبعه من الطريق يوم أحد، فخذل النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحرج أوقاته، وهو الذي قال -كما أخبر الله عز وجل عنه-: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ) (المنافقون:8).
وهو صاحب المواقف المشهورة بالخزي والشنار.
هذا الرجل الذي كان من شأنه ما كان لما مات طلب ابنُه من النبي قميصه؛ ليكفنه فيه؛ تطهيراً له؛ فأعطاه قميصه كفناً لزعيم المنافقين!
أرأيت أكرم من هذا الصنيع؟ وهل وقف الأمر عند هذا الحد؟
لا، بل مشى -عليه الصلاة والسلام- إلى قبره، فوقف يريد الصلاة عليه، فوثب إليه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وقال: أتصلي على ابنِ أُبَيٍّ وقد قال يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ يعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: “أخِّر عني يا عمرُ”.
فلما أكثر عليه قال: “إني خيِّرت فاخترت؛ لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها”.
وذلك إشارة إلى قوله -تعالى- في المنافقين: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (التوبة:80).
ففي الخيار بين أن يستغفر أو لا يستغفر نزعت به طبيعته الرحيمة إلى الاستغفار لأعدائه.
قال عمر بن الخطاب في نهاية الحديث: "فصلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم انصرف؛ فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)) (التوبة).
قال: فعجبت بَعْدُ من جرأتي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذٍ، والله ورسوله أعلم".[8]
فهذه مواقفه مع زعيم المنافقين؛ فما ظنك بمن دونه؟

محمد بن إبراهيم الحمد
18/6/1428هـ




[1] أي ما منعني من الدخول إليه إذا كان في بيته ما استأذنت عليه.

[2] أخرجه البخاري (2871 و 5739) ومسلم (2475).

[3] النغير: طائر كان يلعب به.

[4] أخرجه البخاري (6129 و 6203) ومسلم (2150).

[5] انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص102.

[6] جمع شاب.

[7] أخرجه البخاري (605 و 5662 و 6819) ومسلم (674).

[8] انظر صحيح البخاري (1366).