مقالات في السيرة النبوية(18)

18-رجاحة عقل النبي –صلى الله عليه وسلم-





مدخل في مفهوم العظمة:
تضاف العظمة إلى الإنسان، فيرادفها التجبر والخيلاء، وهذا المعنى لا يحوم على نفس الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقيناً، ولا ينزل بساحته في حال.
وقد يراد من العظمةِ الجلالُ الذي هو أثُر سمو القدرِ، وبلوغ المنزلة الكبرى في خصال الشرف.
وهذا المعنى يتحقق في أكمل الخليقة؛ فقد كان جلاله يبهر العيون، ويذيب القلوب.
وقد يُقْصَدُ من العظمة عِظَمُ القدر، والتناهي في خصال السؤدد والكمال.
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوسعُ الناس في هذه العظمة مجالاً، وأبعدهم فيها أمداً، وأرسخهم فيها قدماً.
فلا جناح على من ينفي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العظمة قاصداً معنى التجبر والأُبَّهة، أما من ينفي عنه العظمة يقصد الجلال، ويقصد بلوغه في الكمال الأمد الأقصى - فقد تنكَّب عن الحقيقة جانباً[1].
وإن من يبتغي عظمة رجل بحق فليبحث عنها في ناحية عقله، وعلمه، وخلقه، وإخلاصه، وعزمه، وعمله، وحسن بيانه.
ولقد جمعت هذه الخصال للنبي -صلى الله عليه وسلم- بحذافيرها، فقد كان راجح العقل، غزير العلم، عظيم الخُلُق، شديد الإخلاص، جليل العمل، صادق العزم، راجح البيان.
وهذا ما سيتبين في هذا المقال، وما بعده من مقالات قادمة.
رجاحة عقل النبي -صلى الله عليه وسلم-:
لا يمتري عاقل منصف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرجح البشرية عقلاً، وأذكاهم جناناً، وأنفذهم بصيرة، وأوسعهم حلماً.
ويتجلى رجحانُ عقلِه في مظاهر كثيرة، منها أنه نشأ بين قوم يعبدون الأصنام، ويتنافسون في مظاهر الأبهة والخيلاء، وينحطون في شهواتهم إلى المنزلة السفلى، فلم يكن لهذه البيئة المظلمة من أثر في نفس محمد -صلى الله عليه وسلم- قليل أو كثير؛ فقد انتبذ من بين هذه الظلمات المتراكمة مكاناً يخلو فيه بنفسه، ويقدح فيه زناد فكره، ويناجي فيه ربه؛ فإذا نورُ النبوة يتلألأ بين جنبيه، وحكمة الله تتدفق بين شفتيه.[2]
ويتجلى رجحان عقله في كونه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وكان مع هذه الأمية، والنشأة البعيدة من مواطن العلوم، ومجالس العلماء ينظر إلى الحقائق الغامضة؛ فيصيب كبدها, وينطق فإذا الحكمة كاشفة النقاب، والبلاغة آخذة بالألباب.
فكمال عقل المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من النوع الذي يخص الله -تعالى- به بعض المصطفين من عباده؛ ليُعِدَّهم بذلك إلى أشرف مقام, هو مقام النبوة والرسالة.
وإذا كان ما ألقي على عاتق هذا الرسول العظيم هي الرسالة العامة الخالدة - فمن المعقول أن يهب الله -تعالى- له من فضل العقل، وسمو الحكمة ما يناسب عمومَ رسالته، وبقاءَها إلى قيام الساعة.
وإذا تحدث متحدث عن كمال عقل محمد -صلى الله عليه وسلم- فلا يتحدث عن عقل يرجع سبب عظمته إلى بيئة أو دراسة, إنما يتحدث عن عقل أودعه -تعالى- في أكمل خلقه؛ ليفهم به مقاصد الوحي؛ فيقوم ببيانها, ويدرك أمراض النفوس؛ فيصف أدواءها, ويتدبر أمور الجماعات؛ فيحسن سياستها.
وإذا قرأتَ سيرته في تلك السنين المعدودة التي قضاها -عليه السلام- في المدينة- نظرت ماذا كان يقوم به من جلائل الأعمال, ويدعو إليه من وجوه الإصلاح, ويُبَيِّنه من حلال وحرام, ويؤم الناس في الصلوات, ويقود الجيوش في الغزوات, ويفتي السائلين في العبادات والمعاملات والجنايات, ويجلس إلى الأفراد والجماعات: يذكر الغافلين, ويرشد الضالين, ويجادل المعاندين, ويبشر المتقين, ويفصل بين المتخاصمين, وينظر في شؤون منزله, ويسوس آل بيته وخَدَمَه في رفق وعدل.
ولا شك أن هذه الأعمال المختلفة النواحي -كما ترى- لا يكفي في تدبيرها وإقامتها عقل من هذه العقول التي يحدثنا عنها التاريخ, ولو صدقت مبالغاته في إطرائها، وإعلاء شأنها.
قال القاضي عياض في كتاب (الشفا): "وأما وفور عقله، وذكاء لُبِّه، وقوة حواسه، وفصاحة لسانه، فلا مرية أنه -صلى الله عليه وسلم- كان أعقل الناس، وأذكاهم.
ومن تأمل تدبيره أمرَ بواطنِ الخلق وظواهرهم، وسياسة العامة والخاصة مع عجيب شمائله، وبديع سيره, فضلاً عما أفاضه من العلم, وقرره من الشرع, دون تعلم سبق, ولا ممارسة تقدمت ولا مطالعة لكتب منه - لم يَمْتَرِ في رجحان عقله، وثقوب فهمه لأول بديهته.
وهذا ما لا يحتاج إلى تقريره لتحقيقه.
وقد قال وهب بن منبه: قرأت في أحد وسبعين كتاباً فوجدت في جميعها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرجح الناس عقلاً، وأفضلهم رأياً".[3]
وقال الماوردي -رحمه الله- متحدثاً معدداً بعض صفات النبي -صلى الله عليه وسلم-:
"إحداهن: رجاحة عقله، وصحة وهمه، وصدق فراسته.
وقد دل على وُفور ذلك فيه صحة رأيه، وصواب تدبيره، وحسن تألُّفِه، وأنه ما استفعل[4] في مكيدة، ولا استعجز في شديدة، بل كان يلحظ المباديَ فيكشف عيوبَها، ويحل خطوبها.
وهذا لا ينتظم إلا بأصدق وهم، وأوضح جزم".[5]
فظهور هذا العقل الكبير في أمي لا يقرأ ولا يكتب من أظهر الدلائل على أن هذا الأمي صادق في دعوى أنه رسول رب العالمين؛ فإذا تكلم أحد في كمال عقل المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فإنما يصف آيةً تبعث في قلب الجاحد إيماناً, وتزيد قلب المؤمن اطمئناناً.
ولعلك تذكر قوله -تعالى-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران:159) فيختلج في صدرك أن أمره باستشارة أصحابه يقتضي أن آراءهم قد تكون أصوب من رأيه.
والجواب أنه كان -صلى الله عليه وسلم- يستشير أصحابه في أمر الحروب ونحوها؛ ليقيم قاعدة الشورى بين الناس, وبالشورى تسعد الأمة، ويرتفع شأن الدولة.
قال الحسن -رحمه الله-: “قد علم الله أنه ما به إليهم من حاجة، ولكن أراد أن يستنَّ به من بعده”.
وفي استشارته -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه تَطْيِيبٌ لنفوسهم، وزيادةُ تأليفٍ لقلوبهم؛ إذ كان العرب من أشد الناس كراهة للاستبداد, ونفوراً من الرئيس الذي لا يجعل لهم في تصريف الأمور العامة نصيباً من الرأي.
وفي استشارته -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه إشعارٌ لهم بعلو مكانتهم عنده؛ إذ يدلّهم على أنه يراهم مَطْلع الآراء السديدة، ومواطن الإخلاصِ, والإخلاصُ رأس كل فضيلة, وأي منزلة أرفع من منزلة قوم يعرض عليهم -صلى الله عليه وسلم- الأمر يستطلع آراءهم فيه, وهو الغني عنهم بما يأتيه من وحي السماء, وبما رزقه الله -تعالى- من سمو الفكر، وصفاء البصيرة.
ولعلك تذكر أن طائفة من المشركين بلغت بهم الرَّقاعة أنْ وصفوا صاحب هذا العقل العظيم بالجنون, كما حكى الله عنهم ذلك في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (الحجر:6).
ويقدح في خاطرك أن عقلاً تهبط منه الحكم البالغة, وتسطع منه الحجج الدامغة لا يَصِفُ صاحبَه بالمجنون إلا مَنْ فقد عقله, وصار يرمي بالألفاظ في غير معنى, فتقول: كيف يحكي القرآن كلام من فقدوا عقولهم, وأطلقوا في الهذيان ألسنتهم؟
والجواب: أن القوم يعلمون أنه ينطق بالحكمة, ويجادل بالحجة, وإنما رموه بالجنون؛ تناهياً في العناد, وقصداً للإساءة بالقول, وحكى الله عنهم ذلك الزعمَ البينَ البطلان؛ ليرينا مبلغَهم من العناد، وسقوطهم أمام الحجة، وتخبطهم في تَطَلُّبِ وَجْهٍ يصرفون به الناس عن إجابة دعوته.
وأيُّ تخبطٍ بَعْدَ تخبطِ من يأتي إلى أرجح البشر عقلاً, وأسناهم خلقاً, وأحسنهم سمتاً, وأجلّهم وقاراً -فيقول عنه: إنه مجنون؟!
وقد انحدرت من سماء ذلك العقل العظيم حِكَمٌ أنفسُ من الدرر, وأنفع من الغيث.[6]

د. محمد بن إبراهيم الحمد




[1] انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص191.

[2] انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص204-205.

[3] الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض 1/91-92.

[4] هكذا في الأصل، ولعل الصواب ما اسَتُغْفِل.

[5] أعلام النبوة للماوردي ص256.

[6] انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص118-123، ومحمد –صلى الله عليه وسلم- المثل الكامل ص18-20.