مقالات في السيرة النبوية(22)

22-حسن بيان النبي صلى الله عليه وسلم

[SIZE=“4”][COLOR=“Navy”][FONT=“Arial”]

[RIGHT]لا ريب أن حسن البيان، وفصاحة المنطق وبلاغته من ضروب العظمة الحاملة على إجلال صاحبها.

وغير خاف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بلغ الذروة في ذلك الشأن؛ فقد أحرز من خصلتي الفصاحةِ والبلاغةِ الغايةَ التي ليس وراءها لمخلوق غاية، فانظروا إن شئتم إلى مخاطباته وخطبه، وما يضربه من الأمثال، وينطق به من جوامع الكلم تجدوا جزالة اللفظ، ومتانة التركيب، وسهولة المأخذ، إلى رفعة الأسلوب، إلى حكمة المعنى.[1]
[/right]

أما حديثك في العقول فَمَشْرَعٌ *** والعلم والحِكَمُ الغوالي الماءُ
هو صبغة الفرقان نفحةُ قدسه *** والسين من سوراته والراء
جَرتِ الفصاحةُ من ينابيع النهى **** من دَوْحِهِ وتفجَّر الإنشاء
في بحره للسابحين به على *** أدب الحياة وعلمها إرساءُ[2]

[RIGHT]قال القاضي عياض -رحمه الله-: “وأما فصاحة اللسان، وبلاغة القول فقد كان -صلى الله عليه وسلم- من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، وفصاحة لفظ، وجزالة قول، وصحة معانٍ، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخصَّ ببدائع الحكم”.[3]
ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- ينوِّع في الأساليب، ويراعي مقتضيات الأحوال، ويستخدم أنواع التأثير التي سبقت كثيراً من النظريات والدراسات الحديثة في فن الخطابة، والإلقاء، والتأثير في الناس.
ولو انبرى دارس لجمع شيء من ذلك لظفر بما لا يخطر بالبال من تلك المادة.
وإليك فيما يلي شيئاً من هذا القبيل مما يؤكد مرتبته العالية في البيان والتأثير.

1- أنه يحدث الناس بما يعرفون: إذ من السياسة والحكمة في الدعوة أن يُخاطَبَ كلُّ قوم بما يفهمون، وأن يُتَحامى مخاطبةُ أحدٍ بما لا يحتمله عقله؛ فذلك أدعى لقبول الموعظة، والبعد عن مواطن النفرة والتكذيب.
ومما يعين على فهم السامعين، وعَقْلهم لما يلقى إليهم، ووقوعه في قرارات نفوسهم -أن تكون الموعظة بألفاظ مأنوسة، وتأليف محكم، ومعانٍ بارزة.
وهكذا كانت مواعظ النبي -صلى الله عليه وسلم- وخطبه؛ فهي مصوغة بألفاظ مألوفة، ومعانٍ قريبة المأخذ.
وهي مع قرب معانيها من أذهان الجمهور قد حازت في مراقي البلاغة الأمد الأسمى. [4]
ومن تحديث الناس بما يعقلون أن يكون الكلام ملائماً لكافة الطبقات، فلا يحسن بالخطيب أن يتعرض في خطبته إلى المسائل التي قد يتعثر فهمها على كثير منهم، أو أن يتناولوها على غير وجهها.
وكانت خطب الرسول -صلى الله عليه وسلم- جارية على هذا النحو؛ بحيث يستوي في فهمها الطبقاتُ المختلفةُ دون أن يجدوا فيها ما ينبو عنه الفكر، أو يحار فيه العقل. [5]

2- مراعاة المدة الزمنية للخطبة، والميل إلى الإيجاز والاقتصاد: فما كان -صلى الله عليه وسلم- يطيل في أغلب خطبه؛ لأنه يخشى على الناس الملل.
وكانت خطبه -مع قصرها- مليئة بالحكمة، والموعظة الحسنة؛ إذ تجيء حافلة بجوامع الكلم، والجملِ التي تجري على الألسنة مجرى الأمثال. [6]
جاء في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: “كنت أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانت صلاته قصداً، وخطبته قصداً”. [7]
ومعنى “قصداً”: أي متوسط بين الإفراط والتفريط، وبين التقصير والتطويل.[8]
وفي صحيح مسلم عن أبي وائل قال: "خطبنا عمارٌ فأوجز، وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان! لقد أبلغتَ، وأوجزتَ، فلو كنتَ تَنَفَّسْتَ!
فقال: "إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مئنةٌ من فقهه؛ فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحراً”.[9]
ومعنى قوله: “لو كنت تنفست”: أي أطلت قليلاً.
ومعنى: “مئنة من فقهه”: أي علامة. [10]
ومع أن هذا هو دأب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبه ومواعظه - فهو يطيل في بعض الأحيان متى اقتضى الحال الإطالة.
جاء في صحيح مسلم عن عمرو بن أخطب -رضي الله عنه- قال: “صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفجر، وصعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فَأَعْلَمُنا أَحْفَظُنا”.[11]

3- الترسل في الكلام، وإلقاؤه مفصلاً دون إبطاء أو تعجيل: فكان يلقي بحروف متمايزة، وكلمات مُفَصَّلة، فتقع في الذهن وكأنها عِقْدُ جِيْدٍ أُحْكِمَ تنسيقُه؛ فالترسل والتمهل دون إبطاء أو تعجيل هو هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في كلامه، ومواعظه.
قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: “كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحدِّث حديثاً لو عدَّه العادُّ لأحصاه”.[12]
وقالت: “إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يسرد الحديث كسردكم”.[13]
قال ابن حجر -رحمه الله- في شرح الحديث الأول: “قولها: “لو عده العاد لأحصاه”: أي لو عدَّ كلماته، أو مفرداته، أو حروفه لأطاق ذلك، وبلغ آخرها.
والمراد بذلك المبالغة في الترتيل، والتفهيم”.[14]
وقال -رحمه الله- في شرح الحديث الثاني: “قولها: “لم يكن يسرد الحديث كسردكم”: أي يتابع الحديث استعجالاً بعضه إثر بعض؛ لئلا يلتبس على المستمع”.[15]
وجاء في سنن أبي داود عن جابر -رضي الله عنه- قال: “كان في كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترتيل، أو ترسيل”.[16]
وفيه -أيضاً- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: “كان كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلاماً فصْلاً يفهمه كلُّ مَنْ سمعه”.[17]

4- ملاحظة نبرة الصوت: جاء في صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم ومسَّاكم.[18]

5- حسن الاستخدام للتكرار: فإن للتكرار أثراً كبيراً في جذب الانتباه، وتأكيد المعاني، وتقريرها في الأذهان.
والخطيب البارع يحسن استخدام التكرار، ويوقعه مواقعه اللائقة به.
ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأخذ بهذا الأسلوب، وربما أعاد الجملة ثلاث مرات إذا كان المقام يقتضي ذلك. [19]
ولهذا عقد الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه باباً بعنوان: “باب من أعاد الحديث ثلاثاً ليفهم عنه”.
وساق فيه عدة أحاديث، منها ما رواه عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: “أنه كان إذا سلَّم سلَّم ثلاثاً، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً”. [20]
وعن أنس -أيضاً- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: “أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً؛ حتى تُفْهم عنه” الحديث. [21]
وعن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: تخلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر سافرناه، فأدْرَكَنا وقد أرهقْنا الصلاة -صلاة العصر- ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: “ويلٌ للأعقاب من النار” مرتين أو ثلاثاً.[22]
والأحاديث في ذلك كثيرة منها قوله: “ألا وقول الزور، فما زال يكررها”.[23]
وقال ابن عمر -رضي الله عنهما- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “هل بلَّغت” ثلاثاً.[24]
وعن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد”.[25]

6- صوغ التشابيه، وضرب الأمثلة: فلذلك أثر كبير في جعل الحقائق الخفية واضحة، والمعاني الغريبة قريبة مألوفة.
وعلى هذا النحو كانت تجري كثير من الأحاديث النبوية.
ومن الأمثلة على ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن المؤمنين وتآلفهم: “مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.[26]

7- إعطاءُ الوسائلِ صورةَ ما تُفضي إليه من الخير والشر: فهذا الأسلوب من الطرق الحكيمة في الحث على فعل الشيء، أو الزجر عنه.
ويشهد لذلك كثير من النصوص، منها قوله -صلى الله عليه وسلم-: “الدال على الخير كفاعله”.[27]
فقد أراك الدلالة على فعل الخير في صورة فعل الخير نفسه؛ إذ جعلها بوسيلة التشبيه بمنزلة واحدة، وذلك مما يقوي داعية الدلالة على الخير في نفسك.
وكما قال -صلى الله عليه وسلم-: “إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه”.
قيل: يا رسول الله! وكيف يلعن الرجل والديه؟
قال: “يسب الرجل أبا الرجل فيسبُّ أباه، ويسب أمَّه، فيسب أمَّه”.[28]
فانظر كيف عدَّ سبَّ الرجلِ لأبي الرجل أو أمه في صورة سب الرجل لوالديه، وفي ذلك من تأكيد الزجر عن إطلاق اللسان بالسب ما لا تجده في النهي عن سب الناس بطريق غير هذا الطريق. [29]

8- قرن القول ببعض الإشارات الحسية التي تناسب المعنى: فهذا مما يزيد به المعنى جلاءً، ويأخذ في النفس صورةً غير صورته المجردة عن الإشارة.
ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعين في تثبيت المعنى بالإشارة بيده إشارة مناسبة للمعنى، مما يجعل للكلام أثراً بليغاً في النفوس.
والأمثلة على ذلك كثيرة، منها ما جاء في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً” وشبك بين أصابعه.[30]
وفي صحيح البخاري عن سهل - رضي الله عنه - قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى، وفرَّج بينهما شيئاً”.[31]
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام عند باب حفصة فقال بيده نحو المشرق: “الفتنة من ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان” قالها مرتين أوثلاثاً.[32]

9- استدعاء طلب البيان: وهذا الأسلوب قريب مما قبله، وذلك أن يأتي المتكلم بالكلام على وجه الغموض يستدعي به طلب البيان، حتى إذا سئل عن ذلك، أو شعر بحاجة المخاطبين إلى الجواب - أجاب عن ذلك، وكشف الغموض، فيتقرر المعنى في نفوسهم بأشد مما لو أتى من أول الأمر واضحاً بيناً.[33]
ومن هذا الباب قوله -صلى الله عليه وسلم-: “انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً”.
فقال رجل: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره؟
قال: “تحجزه، أو تمنعه من الظلم؛ فإن ذلك نصره”.[34]
وفي رواية “تأخذ فوق يديه”.[35]

10- استعمال أسلوب النداء، ومناداة المخاطبين بما يحبون: وذلك بشد انتباه المخاطبين، واستدعاء استجابتهم بنداءات يطلقها الخطيب في ثنايا حديثه بين الفينة والأخرى.
ومن ذلك أن يقول: أيها المؤمنون، أيها الناس، معاشر المسلمين، أيها الإخوة.
وإن كان هناك نسوة وجه النداء إليهن؛ ففي ذلك تنبيه، وتشويق، وتغيير لنمط الحديث.
ولقد تكرر هذا المعنى كثيراً في القرآن والسنة.
ومن ذلك قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102).
وقوله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) (النساء:1).
والأمثلة من السنة على ذلك كثيرة، ومنها على سبيل الإيجاز ما يلي:
قال -عليه الصلاة والسلام-: “أيها الناس اربعوا على أنفسكم”. [36]
وقال: “أيها الناس إليَّ”. [37]
وقال: “أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي”. [38]
وقال: “أيها الناس تصدقوا”. [39]
وقال: “أيها الناس عليكم بالسكينة”. [40]
وقال: “أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو”. [41]
وقال: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج”. [42]
وقال: “يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب؟”. [43]
وقال: “يا معشر النساء تصدقن”. [44]
وقال: “يا معشر يهود أسلموا تسلموا”. [45]
[/right]


د. محمد بن إبراهيم الحمد


[1] انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص206.
[2] الشوقيات 1/37.
[3] الشفا 1/95_96، وانظر أعلام النبوة ص266.
[4] انظر محمد رسول الله وخاتم النبين ص185.
[5] انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص187.
[6] انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص185.
[7] مسلم (866).
[8] انظر مرقاة المفاتيح لملا علي قاري 3 / 498.
[9] مسلم (869).
[10] شرح النووي على صحيح مسلم ص 568.
[11] مسلم (2892).
[12] أخرجه البخاري (3567) ومسلم (2493).
[13] أخرجه البخاري (3568) ومسلم (2493).
[14] [15] فتح الباري 6 / 669.
[16] أبو داود (4838) وقال الألباني في صحيح الجامع (4823): “حسن”.
[17] أبو داود (4839) وقال الألباني في صحيح الجامع (4826): “حسن”.
[18] مسلم (867).
[19] انظر محمد رسول الله ص 185، والخطابة للشيخ محمد أبو زهرة ص66.
[20] البخاري (94).
[21] البخاري (95).
[22] البخاري (96) ومسلم (241).
[23] البخاري (2586).
[24] رواه البخاري (1742).
[25] رواه مسلم (1159).
[26] أخرجه البخاري (6011) ومسلم (258).
[27] أخرجه أحمد 5/274، وقال الألباني في صحيح الجامع (33): “صحيح” ورواه مسلم (1893) بلفظ: “من دل على خير فله مثل أجر فاعله”.
[28] أخرجه البخاري (5973) ومسلم (90).
[29] انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص 115.
[30] البخاري (481 و 2446 و 6026) ومسلم (2585).
[31] البخاري (5304 و 6005).
[32] رواه البخاري (3104 و 7093) ومسلم (2905).
[33] انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص 116.
[34] رواه البخاري (6952).
[35] رواه البخاري (2444).
[36] رواه البخاري (6384).
[37] رواه البخاري (927).
[38] رواه البخاري (917).
[39] رواه البخاري (1462).
[40] رواه البخاري (1671).
[41] رواه البخاري (2966).
[42] رواه البخاري (5065).
[43] رواه البخاري (7523).
[44] رواه البخاري (304 و 1462).
[45] رواه البخاري (6944)
[/font][/color][/size].

جزاك الله خيرا
وتقبل الله مناومنك صالح الأعمال.

بارك الله فيك أخي الكريم