الجذور التاريخية لظهور مصطلح السلفية

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فسلف الرجل لغة: آباؤه المتقدمون ممن هم فوقه في السن والفضل، والمفرد: سالف، ومن الناحية التاريخية؛ فالمراد بالسلف: أئمةُ الصحابةِ -رضي الله عنهم-، والتابعين، وتابعيهم؛ ممن عُرفوا بالإمامة والفضل دون من اشتهر أو رُمي ببدعة.

واصطلاحًا: مذهب “السلف” -أو السلفية- والمراد به ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، ومَن تَبِعَهم وشُهِدَ له بالإمامة في الدين، وعُرِفَ فضلُه وعَظُم شأنه فيه، وتلقى الناس كلامه بالقبول؛ كالأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والنخعي، والبخاري، ومسلم، وأصحاب السنن.

فكل مَن التزم بمنهج وعقائد هؤلاء الأئمة من السلف نُسِبَ إليهم وإن باعدت بينه وبينهم الأزمان، وكل مَن خالفهم في المنهج أو العقيدة فلا يُنسَب إليهم وإن عاش بين أظهرهم وخالطهم.

فالسلفية هي المدرسة التي حافظت على ما كان عليه صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنهج والاعتقاد؛ خاصة بعد أن ظهر الافتراق العقائدي في الأمة، وكثرت الفرق المختلفة التي خالفت -وخرجت- عن منهج الصحابة وما اعتقدوه، وقد تعددت مسميات هذا المذهب -أو قل: ترادفت- مع ثبات المضمون؛ فلما كان علماء الحديث في زمن التابعين هم ورثة علم الصحابة -رضي الله عنهم- وفهمِهم للكتاب والسنة؛ تَسَمَّى السائرون على منهج وعقيدة الصحابة بـ"أهل الحديث".

ولما تفاقمت البدع وشذ أهل الأهواء عن الجماعة في المنهج والاعتقاد؛ تسمى المتمسكون بمنهج وعقائد الصحابة وأهلِ الحديث في عهد تابعي التابعين بـ"أهل السنة والجماعة" في مقابلة “أهل البدعة” من المعتزلة، والخوارج، والمرجئة، والرافضة، ونحوِهم، ولما حاول الخَلَفُ من الأشاعرة نصرةَ عقائد سلف الأمة بالمنهج العقلي -كطريقة المبتدعة من المتكلمين-؛ سـُمِّيَ المتمسكون بمنهج السلف بـ"السلفيين"؛ فظهور مصطلح “السلفية” من الناحية التاريخية ارتبط بظهور “مذهب الخلف” من الأشاعرة الذين زعموا نصرة عقائد السلف بمنهج المتكلمين، ونزيد هذا الأمر وضوحًا؛ فنقول:

كمال الدين في عهد الصحابة مُجتمِعِينَ:

بلغ الدين كماله في عهد صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ لم يمت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بعد أن بلـَّغ الرسالة كاملة؛ قال -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) (المائدة:3)؛ فما من شيء يقربنا إلى الجنة إلا وأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- وبينه لنا، واجتمع علم ذلك في صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- مُجتمِعِينَ، ولم يكن مطلوبًا من المسلمين إلا أن يحافظوا على هذا الدين كاملاً -علمًا وعملاً- كما تلقاه الصحابة وطبَّقوه في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتميز جيل الصحابة -رضي الله عنهم- بأنهم كانوا على منهج وعقيدة واحدة لا يختلفون فيها، وما وقع بينهم -وهو قليل- من منازعات وخلافات؛ فلم تكن ذات طابع عقائدي، ولا شك أن اجتماعهم على المنهج وفي الاعتقاد حجةٌ في الدين؛ إذ إجماعهم أَوْلَى من أي إجماع؛ خاصة وهو ثابت عنهم معروف.

يقول ابن تيمية -رحمه الله- في منهاج السنة: “ويَعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة، فلا يَنتصِر لشخص انتصارًا مطلقـًا عامًّا إلا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا لطائفة انتصارًا مطلقـًا إلا للصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-”(1).

ودليل ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- في الفرقة الناجية عندما سئل عنها: (مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، قال ابن تيمية: “هو حديث صحيح مشهور”، وجاء في وصيته -صلى الله عليه وسلم- للأمة أن تتمسك بهدي أئمة الصحابة وسنتِهم؛ فقال -صلى الله عليه وسلم- في بيان العلاج عند وقوع الافتراق والاختلاف: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)؛ فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- سنتَه وسنتَهم في ضمير واحد بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (عَضُّوا عَلَيْهَا)، ولم يقل: “عضوا عليهما”؛ فسنتهم هي سنته؛ فهم لم يخرجوا عنها -وحاشاهم-، بل نقلوها وطبَّقوها كما عَلَّمها لهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، ولقد كان هَديُهم ومنهجُهم -رضي الله عنهم- تقديمَ الكتاب والسنة والاحتجاجَ بهما.

يقول د/ مصطفى حلمي -حفظه الله-: “ونفهم من استقراء أقوالهم وسلوكهم في جميع أصول الدين أنهم كانوا يتقيدون بهذا المنهج -أي تقديم الشرع على العقل- لا عن قصور في الفهم؛ ولكن لمعرفتهم بمكانة الشرع وضرورة تقديمه على الاستنباطات العقلية التي لا تستند إلى دليل”(2).

وما وقع في الأمة بعد ذلك من اختلافٍ في العقائد عمَّا كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم-، وتقديمِ العقل على الأدلة الشرعية؛ هو من نقصان الدين والخروجِ عليه.

يقول د/ مصطفى حلمي -حفظه الله-: “لم يكن الكلام في الدين إذن تطورًا من البسيط إلى المركب، أو من الأدنى إلى الأعلى، بل كان نكوصًا من الكمال إلى النقصان، وعصيانـًا للأوامر، وانشقاقـًا عن الجماعة”(3).

حفاظ الأمة على الدين في عهد التابعين وتابعي التابعين:

كان حال علماء الأمة من التابعين وتابعي التابعين -وهم الآخذون بعلم الصحابة وفهمِهم، والناقلون لما كانوا عليه؛ إذ كانوا أهل حديث- هو الامتدادَ التلقائيَّ لمنهج وفهمِ الصحابة -رضي الله عنهم-، وكانوا هم ومَن وافقهم جمهورَ الأمة وجماعتَهم؛ لذا كان مَن يأتي بما يخالفهم يواجَه بالإنكار ويوصَف بالشذوذ؛ لأنه خرج عن جماعة المسلمين، وامتد دور أهل الحديث من التابعين وتابعيهم مِن عصر الصحابة إلى عصر بني أمية وفترة من حكم الدولة العباسية، ورغم ظهور الخوارج والشيعة الرافضة ومَن بعدهم من المبتدعة؛ فإن هذا لم يُؤَثِّر في القاعدة العريضة من المسلمين؛ لذا لم يتميزوا خلال تلك الفترة باسم خاص؛ فهم “أهل الحديث” وكفى، وإنما تَسَمَّى مَن خرج عنهم؛ ليُعرَف ببدعته وانشقاقه؛ خاصة وإنهم قلة بجانب الكثرة المتمسكة بمنهج ومعتقد الصحابة -رضي الله عنهم- وأئمة التابعين وتابعي التابعين؛ لذا لما سُئل الإمام مالك عن تعريف أهل السنة والجماعة؛ قال: “الذين ليس لهم لقب يُعرَفون به؛ لا جَهْمِيٌّ، ولا رافِضِيٌّ، ولا قَدَرِيٌّ”(4).

لقب أهل السنة في مقابلة لقب المُعتَزِلة:

لما كثر خوض أهل البدع بمنهجهم العقلي في عقائد المسلمين، وظهر واستفحل علم الكلام والفلسفة على يد المعتزلة، خاصة في عهد الخليفة العباس المأمون؛ تَسَمَّى المتمسكون بمنهج الصحابة والتابعين وتابعيهم بـ"أهل السنة" في مقابلة أصحاب المنهج العقلي من المعتزلة؛ فصار لقب “السني” في مقابلة لقب “المعتزلي”، ولما تصدى الإمام أحمد بمنهجه المبنيِّ على الاحتجاج بالكتاب والسنة في مواجهة أئمة المعتزلة -المُدَعَّمِينَ بتأييد بعض الخلفاء العباسيين- وانتصر عليهم؛ الْتَفَّتِ الأمةُ حول إمامها؛ فسُمِّيَ بـ"إمام أهل السنة والجماعة" حتى صار اسم “الحنبلي” يُطلَق على “السني” عند البعض في تلك الفترة الزمنية.

يقول الإمام أحمد مبينـًا منهجه في مقابلة المعتزلة في زمانه: “لست أتكلم إلا ما كان من كتاب أو سنة أو عن الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين، وأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود”(5).

محاولة الأشاعرة نصرة عقائد السلف بمنهج المتكلمين:

ولد أبو الحسن الأشعري بالبصرة عام 260هـ، ودرس علم الكلام على مذهب المعتزلة على يد علي الجبائي، ولما تبين له فساد مذهب المعتزلة؛ قام بالرد عليهم، ومال إلى نصرة عقائد أهل السنة على منهج المعتزلة في الاستدلال، وقد تبين له في أواخر حياته صحة مذهب السلف منهجًا واعتقادًا؛ فالتزمه؛ يشهد لذلك آخر كتبه التي أَلَّفَها وهو “الإبانة عن أصول الديانة”، ولكنَّ أتباعَه ومَن وافقهم تمسكوا باستخدام المنهج الكلامي في الدفاع عن عقائد أهل السنة والجماعة في مواجهة المعتزلة، بل واعتبروا علمَ الكلام من جملة العلوم الشرعية المشروعة إذا أراد به مُتعلِّمُه نصرةَ عقائد أهل السنة!!

ورأوا أن طريقتَهم -طريقة الخلف- في الرد على المخالفين لأهل السنة بعلم الكلام أعلمُ وأحكمُ، وأن طريقةَ السلف في الاقتصار على الكتاب والسنة في الاستدلال أسلمُ وأحوطُ، وزعموا أنهم بمثابة امتداد للسلف، وأطلقوا على أنفسهم لقب “الخلف”، كما زعموا أنهم جمعوا بين العقل والنقل معًا، ولكنَّ طريقة الأشاعرة لم تلقَ تأييد “أهل الحديث” وأتباعِ الإمام أحمد -“أهل السنة والجماعة”- ورأوا أن منهج الأشاعرة في الرد على المعتزلة هو خروج عن منهج السلف ومذهبهم، خاصة وأن للأشاعرة مخالفاتٍ عقائديةً تظهر في قولهم بـ"نظرية الكسب" في تفسير أفعال العباد، وقولِهم: إن الإيمان هو المعرفة ولا يلزم النطق بالشهادة، ولا العملُ كغلاة المرجئة، وقولِهم: إن كلام الله كلامٌ نَفْسِيٌّ، وإن القرآن عبارةٌ عن كلام الله، واقتصارِهم في إثبات الصفات على صفات سبعة، والتكلمِ في صفات الأفعال بالتأويل(6).

والمذهبُ السَّلَفِيُّ يرفض علم الكلام؛ سواء على طريقة المعتزلة أو على طريقة الأشاعرة، والأشاعرةُ وإن أَيَّدُوا أهلَ السنة في عدة مسائلَ إلا أنهم ليسوا بسلفيين، وهم وإنْ يُذكَر لهم دورُهم في الرد على المعتزلة وبيانِ فساد ما هم عليه إلا أنهم ليسوا على منهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال، والحقُّ أَحَقُّ أن يُتَّبَعَ.

يتبين من هذا العرض التاريخي المختصَرِ أنه لما كان جمهور الأمة على ما كان عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لم يحتج الأمر أن يتسموا باسم، وإنما كان يُسَمَّى مَن خرج عنهم؛ ليُعرَف ببدعته، ولكنْ لما تَفَشَّت البدع وكثر الخروج عما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم-، وقَلَّ مَن منهجُهم التمسكُ بما ورد في الشرع، وكثرت الفرق وتعددت؛ كان لزامًا أن يكون لأهل الحق اسمٌ يميزهم عن غيرهم، ويشير إليهم، ويدل عليهم، ويكون عنوانـًا لِمَا هم عليه، ولا يوجد مانعٌ شرعًا من التسمي باسم أو الاشتهار بلقب إذا كان المضمون موافقـًا للشرع، ولقد ظل التمسك بمنهج الصحابة -رضي الله عنهم- ومعتقدِهم ثابتًا لا يتغير، ولكن لما حَمَل منهجَهم ومعتقدَهم أهلُ الحديث وعلماؤه؛ سُمِّيَ أهلُ الحق بـ"أهل الحديث"، ولما وقع الانشقاق في الأمة وكثرت البدع في مقابلة السنة؛ سُمِّيَ أهلُ الحق بـ"أهل السنة والجماعة"، ولما جاء الخلف مِن الأشاعرة وقالوا عن طريقتهم أنها أحكمُ وأعلمُ وخالفوا منهج السلف؛ كان اسم “السلفية” هو العنوانَ على ما كان عليه صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- من منهج ومعتقد؛ فتغيرت الأسماء ولم يتغير المضمون؛ فصارت هذه الأسماء بمثابة مترادفات لمضمون واحد.

ولا يخفى أن الأشاعرة لما زعموا أن طريقتهم في الاستدلال بمنهج المتكلمين أعلم وأحكم، وأن طريقة السلف أسلم وأحوط؛ كان ذلك مدعاةٌ أن يقال: طريقة الخلف وطريقة السلف، ومنهج الخلف ومنهج السلف، وظهور مصطلح السلفية والمذهب السلفي من كلام الأشاعرة أنفُسِهم؛ ولم يحتج الأمر إلى رفض أهل الحق لتلك المُسَمَّيَات، إنما كان رَدُّهم على ذلك أن طريقة السلف ومنهجَهم هي الأعلمُ والأحكمُ كما أنها الأسلمُ والأحوطُ.

ولقد تَسَمَّى البعض في زمن النبوة بـ"المهاجرين"، والبعضُ بـ"الأنصار"؛ فلم يُنكَر عليهم التَّسَمِّي بذلك؛ بل ربما كان للمهاجرين في القتال رايةٌ، وللأنصار رايةٌ، وكلاهما تحت لواء المسلمين، ولكن لما تنازع بعض المهاجرين مع بعض الأنصار، وصاح صائحهم: يا للمهاجرين، والآخرُ: يا للأنصار؛ قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) (متفق عليه)؛ فأنكر عليهم العصبية للمسميات، ولم يُنكِر عليهم التسميَّ بها قبلَ ذلك أو بعدَه؛ فلا مانع شرعًا من التسمي بأسماء؛ إنما النظر للمضمون: ألاَّ يكون فيه مخالفةٌ للشرع، وألاَّ يكون هنالك التعصبُ للمسميات دون النظر للمضمون.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-(7): “لا عيب على مَن أظهر مذهب السلف وانتسب إليه، واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق؛ فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقـًّا، فإن كان موافقـًا له باطنـًا وظاهرًا؛ فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطنـًا وظاهرًا، وإن كان موافقـًا له في الظاهر فقط دون الباطن؛ فهو بمنزلة المنافق؛ فتُقبَل منه عَلانِيَتُه، وتُوكَل سَرِيرَتُه إلى الله؛ فإنَّا لم نـُؤمَر أن ننقُبَ عن قلوب الناس ولا نشقَّ بطونَهم” اهـ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) من منهاج السنة لابن تيمية (3/66).

(2) “منهج علماء الحديث والسنة في أصول الدين” د/ مصطفى حلمي ط. دار الدعوة الثانية، ص:42.

(3) المصدر السابق، ص:59.

(4) نقلاً عن “الإمام مالك”: لأبي زهرة، ص:18.

(5) من ترجمة الإمام أحمد للحافظ الذهبي، ص:23.

(6) راجع في ذلك “منهج علماء الحديث” د/ مصطفى حلمي، ص:172-176.

(7) نقض المنطق لابن تيمية، ص:123.
www.salafvoice.com
موقع صوت السلف

بارك الله فيك وجزاك الله خير