ثقافة التبرير

ربما يتعجب البعض من العنوان, أن ينضم التبرير الى قائمة الثقافات التى نحتاج لإعادة النظر فيها, بل و تغييرها, لكن إصبروا على قليلاً.
أحب فى البداية أن أذكركم أن كثير من الأشياء قد تحتوى على الخير و الشر معاً: فحسنها حسن, و قبيحها قبيح.
و من هذا المنطلق نستطيع أن نقسم التبرير بدوره الى نوعان: تبرير محمود, و تبرير مذموم.
و نحتاج فى البداية أن نسأل أنفسنا سؤالاً: لماذا نلجأ كبشر الى التبرير؟
فى أحيان كثيرة قد نقدم على بعض التصرفات التى نظن أن غيرنا قد يسىء فهمها, و يفسرها تفسيراً خاطئاً, لذا قد نبادر بإعطاء بعض التبريرات لهؤلاء الذين نحرص على ألا يظنوا بنا ظناً سيئاً, حتى قبل أن يسألونا.و بالمناسبة, الإنسان ليس بحاجة لأن يسوق تبريرات لكل الناس.
و فى الواقع, فإن هذا يضايقنى فى بعض الأحيان, ففى حين أجد أن هذا الموقف مفهوم و متقبل عندما أفعله أو يفعله معى شخص ليس على علاقة وثيقة بى, بحيث أنه قد ينزلق الى خانة سوء الظن لأنه لا يعلم شخصيتى جيداً و لم يعاشرنى بالقدر الكافى, إلا أنه عندما تجد شخصاً قريباً منك-عمك أو خالك أو حتى أمك!!-يبررون لك بعض أعمالهم, فعندها يكون هذا شىء عجيب حقاً-بالنسبة لى على الأقل-و قد يعطى انطباعاً بعدم وجود ثقة فى عقل الطرف الآخر, يعنى ببساطة , تخيل إن أخوك عمل موقف بالنسبة لك هو عادى, ثم وجدته يقدم لك تبريراً كأنه حريص على ألا تسىء فهمه, ساعتها أنا شخصياً أتضايق لأنى لا أتصور كيف يظن أخى أنى سأظن به ظن سوء أو أسىء تفسير نيته؟!!و هذا إتهام لعقلى و نيتى قبل أن يكون إعتذار منه!
ما علينا, ننتقل لغرض آخر من أغراض التبرير, فإن كانت النقطة السابقة تناقش التبرير عن تصرف شخصى و ذاتى, فإننا كثيراً أيضاً ما نقدم على تبرير تصرفات أشخاص آخرين, حتى قبل أن يقوموا هم بذلك, فلماذا إذاً؟
يحدث هذا عندما ينتقد أحد ما تصرفات أحد الأشخاص الذين نحبهم, فيكون رد فعلنا هو أن نبرر هذا التصرف, و هذا إما لعلمنا المسبق بالأسباب التى أدت الى هذا التصرف, أو لحبنا و ثقتنا فيمن نحبهم ,و لقربنا منهم و فهمنا لشخصيتهم و حسن ظننا بهم, و كلها عوامل تجعل المرء يحسن تفسير التصرف و يبرره لنفسه قبل أن يبرره لغيره.
يعنى مثلا, قد يأتينى شخص و يقول لى أنا غاضب من فلان, لأنى سمعت أنه قال كذا, و لأن هذا الفلان المذكور قد يكون صديق حميم, و لفهمى لطباعه و شخصيته من طول عشرتى معه, فإنى قد أتفهم الأسباب و الظروف التى أدت به لأن يقول هذا, و ساعتها أستطيع أن أبرر تصرفه و أدافع عنه بكل شجاعة, و أرد غيبته و أوضح لمن ينتقده حقيقة الموقف.
الى هذا الحد, ربما تتفقون معى أن هذا يندرج تحت بند:التبرير المحمود, فماذا عن محور هذا المقال, ماذا عن التبرير المذموم إذاً؟
التبرير المذموم يحدث عندما يكون ديدنك-أى عادتك-أن تبرر كل أفعالك حتى لو تيقنت داخلياً أنك على خطأ, و تظل تدافع و تجادل بلا منطق بدون أن يكون لديك شجاعة الإقرار بالخطأ, و لا فضيلة الإعتراف بالحق.
التبرير المذموم أيضاً يكون عندما تبرر مواقف الآخرين على طول الخط, دون تفكير و لا وعى, فقط لأنك تحبهم و تتعلق بهم, و كأن هذا وحده كاف لكى يكونوا معصومين من الخطأ!!
لا يا عزيزى, ليس هناك بشر معصوم من الخطأ, و آخر المعصومين هو رسول الله صلى الله عليه و سلم, فلا قداسة لأحد من بعده, و ليس هناك من لا نستطيع أن نتوجه له باللوم و الانتقاد-بالحسنى طبعاً-و ليس هناك من يسير طوال الوقت دون عثرات أو كبوات أو هفوات.
إن الإسلام يعلمنا ألا نتعصب للرجال و لا لأعمالهم, فإننا نتبع الحق وحده, و قد يكون فلان حبيب إلينا, و لكن ينبغى أن يكون الحق أحب إلينا من فلان, و الإسلام يعلمنا أيضاً أن نعرف الرجال بالحق, لا أن نعرف الحق بالرجال.
إن التبرير المذموم فى هذه الحالة ما هو إلا إنعكاس للتعصب للرأى و للمذهب و للرجال, و أى تعصب مرفوض فى الإسلام, و نكرر أنه لا عصمة و لا قداسة لأحد من بعد الرسول الأكرم, لكن نذكر أيضاً أن الإحترام واجب لكل من يستحقه, لكن بلا تعصب له, و لا إنقياد أعمى لآرائه, و كأنه منزه عن النقص, و أعلى من الخطأ!!
و من التبرير المذموم أيضاً, تبرير الرجل أخطاء قومه و أهله على طول الخط و لو لو يكن الحق معهم, و هذا بدوره إنعكاس لنوع آخر من التعصب, إنها العصبية القبلية المنتنة التى حاربها الإسلام, و ذمها الرسول, لأنها من أخلاق الجاهلية, إنها إنعكاس للمبدأ الجاهلى:إنصر أخاك ظالماً أو مظلوما!!
ذكر العلامة أبى الحسن الندوى فى كتابه القيم:ماذا خسر العالم بإنحطاط المسلمين:(أن العرب فى الجاهلية كانوا يتعصبون للقبيلة و كان شعارهم:انصر أخاك ظالماً أو مظلوما, فلما جاء الإسلام و هذب طباع أتباعه, قال الرسول صلى الله عليه و سلم نفس المقولة:إنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً, حينها كان تساؤل العربى المسلم:أنصره مظلوما يا رسول الله, فكيف أنصره ظالما؟, فأجاب الرسول الأكرم:أن تمنعه من الظلم, فذلك نصرتك إياه).
و إنك عندما تبرر تصرفات أخيك و تدافع عنه إتباعاً للحمية و العصبية, فإنك حينها تتبع المعنى الجاهلى, لا المعنى الإسلامى, و تضر أخاك بدلاً من أن تنفعه.
و الأولى يا أخى أن تتثبت من الوقائع أولاً, فإن وجدت الحق مع أخيك فدافع عنه و جادل عنه-بالحسنى-كيفما تشاء, لكن إياك ثم إياك أن تسوق المبررات و تدافع بلا هوادة و أنت تعلم أنه على باطل.
و أسوأ أنواع المبررين قاتبة, هم المنافقون الذين يبررون أفعال الحكام الظلمة, و يزيفون الوعى و يكذبون على الشعوب و يسوقون مبررات واهية فى صورة مسكنات يحاولون بها خداع الناس و إمتصاص غضبهم, و يفعلون هذا بشكل عجيب, ربما لا يخطر على بال الحاكم نفسه!!!
نعم, فهناك ملكيون أكثر من الملك, و هناك من يزيف الواقع و يتفنن فى سوق المبررات بطرق عبقرية تفوق فكر الحكام أحياناً, و هؤلاء موجودون فى بلاط كل حاكم, و هذا الأسلوب هو وسيلة كسب عيشهم و رزقهم, نعم هذه هى وظيفتهم فى الحياة: أن يبرروا كل تصرفات الحاكم و يزينوها و يضعوها فى قوالب جذابة و يقدموها للشعب فى صورة خادعة لكى يبتلعها و يصمت.
ستجد من هؤلاء وزراء و صحفيين و كتاب و مثقفين-للأسف-يفعلون هذا لأن وجودهم من وجود النظام, و يبجلون الحاكم الذى هو صنمهم المعبود, و يقدمونه للناس كأنه إله لا يخطىء, و كل تصرفاته إنما هى من حكمة بالغة تحتاج لتوضيح كى تصل لعقول أبناء الشعب البسيط, و فى حال كان هناك خطأ سافر لا سبيل لتبريره, فإن هذا خطأ أحد الأتباع, فحاشا أن يخطىء الحاكم المبجل!!!

الخلاصة:إذا كنت فى موقف يدعوك لأن تقدم تبريرا لتصرف قمت به, أو تصرف قام به غيرك, فلو سمحت كن موضوعياً و منصفاً, قل الحق و لو كان مراً, و لا تكن من الأصناف المذمومة التى تنافح عن نفسها و عن غيرها فى الحق و الباطل بلا تمييز, فقط بسبب التعصب, و لا تكن أيضاً من هذا النوع الأخير الذى يبرر تصرفات الظالمين و الفاسدين, فتجمع بين التعصب, و الكذب, و النفاق.
و الله من وراء القصد

شكرا لك علي هذا الموضوع الجميل