[CENTER][FONT=Times New Roman][SIZE=4][COLOR=Blue] اتذكرون المقامة الحلوانية - لبديع الزمان الهمذانى
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامِ قَالَ: لَمَّا قَفَلْتُ مِنَ الحَجِّ فِيمَنْ قَفَلَ، وَنَزَلْتُ مَعَ مَنْ نَزلَ، قُلْتُ لِغُلامي:[/color][/size][/font][SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] أَجِدُ شَعْرِي طَوِيلاً، وَقَدْ اتَّسَخَ بَدَنِي قَليلاً، فَاخْتَرْ لَنَا حَمَّامَاً نَدْخُلهُ، وَحَجَّامَاً نَسْتَعْمِلهُ، وَلِيَكُنْ
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] الحَمَّامُ وَاسِعَ الرُّقْعَةِ، نَظِيفَ البُقْعَةِ، طَيِّبَ الهَوَاءِ، مُعْتَدِلَ المَاءِ، وَلْيِكُنْ الحَجَّامُ خَفِيفَ اليَدِ،
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] حَدِيدَ المُوسَى، نَظيفَ الثِّيابِ، قَليلَ الفُضُولِ، فَخَرَجَ مَلِيّاً وَعَادَ بَطِيّاً، وَقالَ: قَدْ اخْتَرْتُهُ كَمَا
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] رَسَمْتَ، فَأَخَذْنَا إِلَى الحَمَّامَ السَّمْتَ، وَأَتَيْناهُ فَلَمْ نَرَ قَوّامَهُ، لَكِنِّي دَخَلْتُهُ وَدَخَلَ عَلى أَثَرِي
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] رَجُلٌ وَعَمَدَ إِلى قِطْعَةِ طِينٍ فَلطَّخَ بِها جَبِينِي، وَوَضَعَها على رأَسِي، ثُمَّ خَرَجَ وَدَخَل آخَرُ
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] فَجَعَلَ يَدْلِكُنِي دَلْكَاً يَكُدُّ العِظامَ، وَيَغْمِزُنِي غَمْزَاً يَهُدُّ الأَوْصالَ وَيُصَفِّرُ صَفِيراً يَرُشُ البُزَاقَ،
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] ثُمَّ عَمَدَ إِلى رَأَسِي يَغْسِلْهُ، وَإِلَى المَاءِ يُرْسِلهُ، وَمَا لَبِثَ أَنْ دَخَلَ الأَوَّلُ فَحَيَّا أَخْدَعَ الثَّانِي
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] بِمَضُمومَةٍ قَعْقَعَتْ أَنْيابَهُ، وَقَالَ: يَا لُكَعُ مَا لَكَ وَلِهَذا الرَّأْسِ وَهُوَ لي؟ ثُمَّ عَطَفَ الثَّاني عَلى
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] الأَوَّلِ بِمَجْمُوعَةٍ هَتَكَتْ حِجَابَهُ، وَقالَ: بَلْ هَذَا الرَّأْسُ حَقِّي وَمِلْكِي وَفِي يَدِي، ثُمَّ تَلاكَمَا حّتَّى
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] عَيِيَا، وَتَحَاكَمَا لِما بَقِيا، فَأَتَيا صَاحِبَ الحَمَّامِ، فَقَالَ الأَوَّلُ: أَنَا صَاحِبُ هَذا الرَّأْسِ؛ لأَنِّي
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] لَطَّخْتُ جَبِينَهُ، وَوَضَعْتُ عَلَيْهِ طِيَنهُ، وَقَالَ الثَّاني: بَلْ أَنَا مَالِكُهُ؛ لأَنشي دَلَكْتُ حَامِلَهُ،
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] وَغَمَزْتُ مَفَاصِلَهُ، فَقَالَ الحَمَّامِيُّ: ائْتُونِي بِصَاحِبِ الرَّأْسِ أَسْأَلهُ، أَلَكَ هذَا الرَّأْسُ أَمْ لَهُ،
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] فَأَتَيَانِي وَقَالا: لَنَا عِنْدَكَ شَهَادَةٌ فَتَجَشَّمْ، فَقُمْتُ وَأَتَيْتُ، شِئْتُ أَمْ أَبَيْتُ، فَقَالَ الحَمَّامِي: يَا رَجُلُ
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] لاَ تَقُل غَيْرَ الصِّدْقِ، وَلا تَشْهَدْ بِغَيْرِ الحَقِّ، وَقُلْ لِي: هذَا الرَّأْسُ لأيِّهِمَا، فَقُلْتُ: يَا عَافَاكَ اللهُ
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] هذَا رأْسِي، قَدْ صَحِبَنِي فِي الطَّرِيقِ، وَطَافَ مَعِي بِالْبَيْتِ العَتِيقِ، وَمَا شَككْتُ أَنَّهُ لِي، فَقالَ
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] لِي: اسْكُتْ يِا فُضُولِيُّ، ثُمَّ مالَ إِلى أَحَدِ الخَصْمَيَنِ فَقَالَ: يَا هَذَا إِلَى كَمْ هَذِهِ المُنافَسَةُ مَعَ
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] النَّاسِ، بِهذَا الرَّأْسِ؟ تَسَلَّ عَنْ قَلِيلِ خَطَرِهِ، إِلى لَعْنَةِ اللهِ وَحَرِّ سَقَرِهِ، وَهَبْ أَنَّ هَذا الرَّأْسَ لَيْسَ، وَأَنَا لَمْ نَرَ هذَا التَّيْسَ.[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَقُمْتَ مِنْ ذَلِكَ المَكَانِ خَجِلاً، وَلَبِسْتُ الثِّيابَ وَجِلاً، وَانْسَلَلْتُ مِنْ
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] الحَمَّامِ عَجِلاً، وَسَبَبْتُ الغُلاَمَ بِالعَضِّ وَالمصِّ، وَدَقَقْتُهُ دَقَّ الجِصِّ، وَقُلْتْ لآخَرَ: اذْهَبْ فَأْتِني
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] بِحَجَّامٍ يَحُطُّ عَنِّي هَذا الثِّقَلَ، فَجَاءَني بِرَجُلِ لَطِيفِ البِنْيَةِ، مَلِيحِ الحِلْيَةِ، في صُورَةِ الدُّمْيَةِ،
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] فارْتَحْتُ إِلَيْهِ، وَدَخَلَ فَقَالَ: السَّلاَمُ عليْكَ، وَمِنْ أَيِّ بَلَدٍ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنْ قُمَّ، فَقَالَ: حَيَّاكَ اللهُ!
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] مِنْ أَرْضِ النِّعْمَةِ وَالرَّفَاهَةِ وَبَلَدِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَلَقَدْ حَضَرْتُ فِي شَهْرِ رَمضانَ جَامِعَها
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] وَقَدْ أُشْعِلَتْ فِيهِ المَصَابِيحُ، وَأُقِيَمتِ التَّرَاويحُ، فَمَا شَعَرْنا إِلاَّ بِمَدِّ النِّيلِ، وَقَدْ أَتَى عَلَى تِلْكَ
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] القَنَادِيلِ، لكِنْ صَنَعَ اللهُ لِي بِخُفِّ قَدْ كُنْتُ لَبِسْتُهُ رطْباً فَلَمْ يَحْصُلْ طِرَازُهُ على كُمِّهِ، وَعَادَ
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] الصَّبيُّ إِلِى أُمِّهِ، بَعْدَ أَنْ صَلَّيْتُ العَتَمَةَ واعْتَدَلَ الظِّلُّ، وَلَكِنْ كَيفَ كَانَ حَجُّكَ؟ هَلْ قَضَيْتَ
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] منَاَسِكَهُ كَما وَجَبَ، وَصَاحُوا العَجَبَ العَجَبَ؟ فَنَظَرْتُ إِلى المَنَارَةِ، وَمَا أَهْوَنَ الحَرْبَ عَلى
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] النَّظَّارَةِ، وَوجَدْتُ الهَرِيسَةَ عَلى حالِهَا، وَعَلِمْتُ أَنَّ الأَمْرَ بِقَضَاءٍ ِمنَ اللهِ وَقَدرٍ، وَإِلَى مَتَى
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] هَذَا الضَّجَرُ؟ وَاليَوْمُ وَغَدُ، وَالسَّبْتُ وَالأَحَدُ، وَلا أَطِيلُ وَمَا هَذا القَالَ وَالقِيلَ؟ وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ المُبَرِّدَ فِي النَّحْوِ حَدِيدُ المُوسَى فَلاَ تَشْتَغِلْ بِقَوْلِ العَامَّةِ؛ فَلَوْ كَانَتْ الاسْتِطاعَةُ
قَبْلَ الفِعْلِ لَكُنْتُ قَدْ حَلَقْتُ رَأَسَكَ، فَهَلْ تَرَى أَنْ نَبْتَدِئَ؟.[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَبَقَيْتُ مُتَحَيِّراً مِنْ بَيَانِهِ، فِي هَذَيَانِهِ، وَخَشِيتُ أَنْ يَطُولَ مَجْلِسَهُ، فَقُلْتُ:
[SIZE=4][COLOR=Blue]
[/color][/size] إِلى غَدٍ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَسَأَلْتُ عَنْهُ مَنْ حَضَرَ، فَقَالوا: هَذا رَجُلٌ مِنْ بِلادِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ لَمْ يُوَافْقُهُ هَذا المَاءُ، فَغَلَبَتْ عَلْيِهِ السَّوْدَاءُ، وَهُو طُولَ النَّهارِ يَهْذِي كَمَا تَرَى، وَوَرَاءَهُ فَضْلٌ كَثِيرٌ، فَقُلْتُ: قَدْ سَمِعْتُ بِهِ، وَعَزَّ عَلَيَّ جُنُونُهُ، وَأَنْشأْتُ أَقُولُ:
[/center]
لا حَلَقْتُ الرَّأْسَ مَا عِشْـ *** تُ وَلَوْ لاقَيْتُ جَـهْـدَا