لعلهم يتذكرون

قصة حقيقية حصلت للمواطن السعودي / حسام جمعة


قصة حقيقية حصلت للمواطن السعودي / حسام جمعة … ويروها لنا بنفسه

تعيشها معه بكل تفاصيلها وتشعر معها بقشعريرة ورهبة الموقف ورحمة

الخالق وتعرف كيف نجا بقدرة الله ورحمته بعبده …

لاتفوووووووووتكم فالقصة تستحق القراءة حتى النهاية … صدقوني تستحق

اسمي حسام عبد السلام جمعة وأبلغ من العمر 47 عاماً، ولم أكن أدرك أو أؤمن من قبل أن بعض الحوادث العظيمة التي تُكتب لأشخاص في حياتهم لها نصيب من أسمائهم، وأن الله قدّر لهم تلك الأسماء عندما كتب الأرزاق والآجال لتبقى أسماؤهم دلالة على سَبْقِ علم الخالق وعظيم لُطفه وجلال طُرق تربيته لخلقه . ولم أكن أحلم قط أن يصل فكري وخيالي فضلاً على أن أعيش يوم جمعة حاسم كهذا الذي سأرويه لكم في قصتي هذه، يوم فاصل كالسيف – وهو معنى حُسامُ ـ فصل بين الحياة والموت بل قُل بين حياةٍ وحياة، يوم هو أقرب للخيال منه للواقع، وما كنت لأصدق ما سأرويه لو أنني سمعته من غيري نظراً

لخلفيتي العلمية وتشكيكي في كل مالا يستند إلى الأدلة العلمية الموثقة، وما أدري لعل الله اختارني من أجل هذا، لاحيا مع اسمه السلام وليريني بأم عيني كيف يضع اسمه سبحانه على المخاطر فتنقلب أمناً وعلى الوحوش فتصير وديعة مستأنسة، ولأعايش من الآيات والعبر ما يعيى اللسان عن وصفه، ويعجز القلم عن تجسيده .

يوم جمعة كامل في البحر المفتوح: أربع وعشرون ساعة سبقتها ثمان ساعات وتلتها ثمان أخرى فكانت بمثابة غلاف كتاب “جمعتي الحاسمة” تلك، وليكون مجموع ما قضيت تائهاً في البحر المفتوح أربعين ساعة .

دعوني أعود بكم إلى الوراء، إلى الأسبوع الذي سبق الحادثة، حين كثر حديثي عن الموت على غير عادتي، وكررت سؤالي لأهلي ما حالكم ياترى إذا مت وتركتكم؟ وكثر دعائي لبناتي الثلاث كأنه دعاء مودع، وقد لاحظ زملائي في العمل قلة كلامي وكثرة صمتي وتأملي وسكوتي وانصرافي عنهم إلى عالم آخر سَكَنتُ إليه بعد زيارتي لمريض قبل أربعة أسابيع من الحادثة، مريض لم أكن أعرفه من قبل وإنما اصطحبني لزيارته صديق عزيز، مريض ملقى على ظهره منذ 14 عاماً لا يستطيع الحراك، ومع ذلك فإنني لم أر في حياتي رجلاً أكثر منه حيوية وإقبالاً على الدنيا ورضاً بحاله تلك على أنها بابه إلى مرضاة ربه وطريقه لإدراك أعلى مراتب الجنة، يُحدِّث زائريه فتخرج كل كلمة من فمه روحاً تعمل في نفوسهم عملها بأكثر مما يظن قائلها أنها تحدث في آذان سامعيه، وكان عجزه عن الحركة هذه المدة كلها مع تسليمه ورضاه ما يجعل في كلماته تلك الحركة العجيبة في قلوب من يراه؛ كلمات بسيطة تخرج من فمه بلا تَكَلُّف أو تَصَنُّع إلاَّ أنها صُبغت بروح السماء فكان بينها وبين القلوب نسباً روحياً علوياً .

وقفة تأمل

خرجت من بيت ذلك الرجل إنساناً آخر فكلماته عملت في نفسي عملها وكان حديثي طوال شهري ذاك الذي سبق محنتي في البحر عن هذا الرجل وعن آية مرضه .

ومما أذكر من قوله: “كم من الإشارات الحمراء قطعنا مع الله ولو شاء لأصابنا بمخالفاتنا حوادث وآلاماً ومحناً ونستحق والله هذا العقاب، ولكنه غفور رحيم حليم تواب “.

كان شهري ذاك هو شهر إعادة حساباتي واسترجاع لشريط أحداث حياتي. أما صديقي الذي سأبقى مديناً له لأنه عَرَّفَني على هذا الرجل، فقد اكتشف أنه مصاب بسرطان القولون وتم استئصال السرطان وجزء من الأمعاء وبقي تحت العلاج الكيميائي، فكان بمثابة آية ثانية لي ورأيت فيهما رسالتين كأني أنا المعني بهما، فبدأت أنظر للحياة نظرة أخرى، فمثلاً بعد أن كنت أتكــــاسل عن رؤية وَالِدَيَّ أصـبحت أحرص على أن أراهما يومياً ولو لبضع دقائق .

وجاء يوم الخميس الموافق الثامن عشر من شهر مايو لعام 2006 م، وقد اعتدت مع صديقين لي أن نَذهب للغوص والصيد مرتين في الشهر، وفي هذا اليوم أنهيت عملي متأخراً وخشيت أن أؤخر صديقيّ ولكنهما انتظراني، أما الصديق الأول ” طلعت مدني” فقد اعتدت الذهاب معه منذ عام 1994م، أما صديقي الآخر فاسمه “Manning” فلبيني الجنسية، وقد أسلم قبل عام وسمى نفسه بـ”يوسف”. وخرجنا للبحر كعادتنا، وسجلنا في مكتب حرس الحدود بأبحر وقت عودتنا كما توقعناه آنذاك الساعة السابعة من مساء نفس اليوم، واتجهنا بالقارب لمنطقة تسمى “الوسطاني” وهي حوالي 20 كيلو متراً غرب جدة ووصلنا في الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف النهار وأنزلنا المرساة الأولى ولكنها لم تثبت بسبب الأمواج إلاَّ بعد عدة محاولات فوضعنا مرساة أخرى إضافية زيادة في الحِرص، حيث كان لي قبل عدة سنوات تجـــــربة قاـــــسية انفصل فيها القارب عن المرساة ولكنـــني اســـتطعت بفضل الله أن أصــل إليه بعد(5) ساعات من السباحة المتواصلة .

تأكدنا من تثبيت المرساتين ونزل ثلاثتنا للغوص وكان هذا الخطأ الأول إذ إننا لم نترك واحداً منا على ظهر القارب فقد غلبتنا رغبتنا في أن نكون سوياً تحت البحر وألهتنا الثقة الزائدة بالنفس عن أخذ الحيطة نظراً لخبرتنا الطويلة بالغوص، وكان الموج قوياً ذاك اليوم وكان الصيد وفيراً، وبعد 40 دقيقة صعدنا إلى ظهر القارب للراحة، وقُلت لصاحبي طلعت – وقد أرهقتنا مشقة الغوص وجهد الترتيبات التي تسبقه مما يجعل الجهد مضاعفاً-: “يظهر أننا نحتاج إلى رياضة أخرى فقد كبرنا في السن على هذه الرياضة المرهقة” فأجاب طلعت مطمئناً إنه لازال أمامنا عشر سنوات أخرى في هذه الرياضة فإنني أعرف من ناهز الستين من العمر ومازال يمارس الغوص، تأكدنا مرة أخرى من ثبات المرساتين ثم نزلنا للغطسة الثانية الساعة الثالثة والنصف ظهراً وكعادتنا طلبنا من أحدنا أن يغوص قريباً من المرساة،وبعد 30 دقيقة وجدت أن المرساة مقطوعة فذهب “طلعت” للتأكد من المرساة الأخرى فلم يجدها، ولم أستطع الصعود لأنني أحتاج إلى دقيقتين لتحقيق تعادل الضغط، وعند صعودي رأيت في وجه “طلعت ” الذعر وهو يصرخ القارب “الذي صار على بعد 300 متـــر تقريبا” ـ وقـــــاربنا “Boston Whealer” طوله حوالي23 قدماً- فتبادر إلى ذهني تجربتي التي حدثت قبل (5) سنوات وكيف أنني استطعت الوصول للقارب بعد(5) ساعات من السباحة المتواصلة، وهنا كان خطأي الثاني وخدعتني مرة أخري ثقتي الزائدة بالنفس، ولو أنني استقبلت من أمري ما استدبرت لأدركت في تلك اللحظة أن الأمر اليوم مختلف تماماً، فقد كان الجو آنذاك أفضل والأمواج أهدأ، بل والذي ساهم في لحاقي بالقارب آنذاك أن المرساة المتدلية من القارب اصطدمت بصخور فأبطأت حركته، أما هذه المرة فليس ثمة صخور ولا شُعب مرجانية بل بحر مفتوح وأمواج قوية، وبدون تفكير وحرصاً مني على أن أكسب كل دقيقة ألقيت بسترة الغوص (الطفوية) واسطوانة الهواء والبندقية وانطلقت في اتجاه القارب بأسرع قوة، وفي هذه الأثناء مَرَّ قارب صيد بيني وبين القارب فصرخت بأعلى صوتي ولكنهم لم يروني أو يسمعوني فأكملت السباحة وكان الوقت الرابعة عصراً، ولكني سرعان ما أدركت أن الموج مختلف هذه المرة، وبعد سباحة ساعة وجدت أن المسافة بيني وبين القارب ثابتة لا تتغير وبعد ساعتين في تمام الساعة “السادسة مساءً” أدركت أن المهمة لن تكون سهلة، فقد تغير مسار القارب عدة مرات وبدأت المسافة بيني وبين القارب تزداد .

لم أفقد الثقة !

ولم يكن هناك أي شُعب مرجانية أو قطع صخرية فهذه منطقة تخلو من كل ذلك وأقرب منطقة بها شعب مرجانية تسمى “أبو طير” ولكن الموج لن يساعدني للذهاب إليها كما أن هدفي الأول هو اللحاق بالقارب، وبالرغم من أن الشمس بدأت في الغروب والقارب مازال يبتعد إلا أن تجربتي الناجحة السابقة أمدت في حبل ثقتي الزائفة بنفسي فضاعفت قواي لألحق بالقارب، وجنَّ الليل وابتلع الظلام كل أثر للقارب، وهنا توقفت أَنْظر وأسترجع وألوم نفسي… ثلاثة أرواح تذهب بسبب خطأ تافه كهذا؟!.. كيف يكون ذلك؟!.. ما أسخف أن يفقد الإنسان حياته بهذه الطريقة… وأخذت أنظر إلى جدة من على بعد وأنا في قلب البحر الأحمر أراها متلألئة مضيئة، وكانت معالمها الواضحة ونافورتها أمامي تبعث في نفسي شيئاً من الطمأنينة .

وهناك في قلب البحر حيث لا يسمعني إلاَّ الله ولا يراني إلاَّ الله بدأت أناجي خالقي وأدعوه أن يخرجني من كربي هذا “لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين”، أدعوه دعاء يونس عسى الله أن يخرجني كما أخرج نَبِيَّه مما هو أعظم – لا من قلب البحر فحسب بل من قلب الحوت ـ تذكرت آنذاك أنه قد فاتتني صلاة العصر فتوضأت من ماء البحر وصليت وقرأت المعوذات، ولأول مرة في حياتي أجد للوضوء معنى غير المعنى الذي كنت أجـــــده وأنا على اليابسة آمناً مطمئناً

توضأت من ماء البحر ولم يكن وضوءاً مثل الذي عهدت، بل كان بمثابة وقاء ودرع يحوط بي ويحميني من كل ما أخشى وأحاذر.أما الأجزاء التي لم يغطها الوضوء فأخذت أقرأ المعوذات وأنفخ في يدي وأمسح بها جسدي وأحرص أن لا أترك جزءاً منه بغير درع ووقاية، وأكثرت من دعائي “بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما أجد وأحاذر، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين “.

ولا تسألني كيف لم يباغتني الذعر والخوف آنذاك فأنا نفسي في عجب من ذلك، إلاَّ إنها رحمة الله ولطفه وسكينته التي تنزل على عباده، لم يكن هناك خوف! بل اعتقاد كامل لا شك فيه أن الله الكريم القوي العزيز سيخرجني من هذه المحنة، وأن هذا المنظر المؤنس الذي أراه لمدينة جدة من على بعد سيقربه الله لي ويأخذ بيدي لأصل إليه،كان لابد لي أن أستمر في السباحة فالموج عال والوقوف يعني الغرق وليس لدي سترة السباحة لتساعدني على الطفو فوق الماء، ولأول مرة في حياتي أرى النجوم بهذا الوضوح وأرى القمر بازغاً مؤنساً كتلك الليلة، ولأول مرة في حياتي أشــعر أنني لا أعدو أن أكون نقطة في بحر لا أختلف كثيراً عن أي نقطة أخرى ليس لها وزن .

وبدأت أستعيد يومي وأتساءل عن أصدقائي الاثنين هل تحركوا في اتجاهي؟!.. وبدأت أصرخ لعلَّهم قريبون مني ولكن لا أحد يجيبني. أرى أنوار بعض الصيادين من على بعد ثم تختفي، رأيت من على بعد نافورة جدة وبرجاً ومبنىً كبيراً فقررت السباحة في اتجاه المبنى ولكن بعد ساعات من الجهد وجدت أنني لم أحقق أي تقدم فالمسافة بيني وبين المبنى أراها ثابتة لا تتغير فالمد القوى يعيدني إلى حيث بدأت، واتجاه الريح يأخذني نحو الميناء والذي فيه خطر على حياتي نظراً لوجود السفن العملاقة التي حتماً ستسحقني إن دخلت تلك المنطقة .

دعاء المضطر

وبدأت المناجاة لله بأعلى صوتي والتركيز في الدعاء، دعاء المضـــطر، وبدأت أراجـــع نفســــي وأســــترجع سنوات عمري وأسأل أَغاضب أنت علي يا ربــــي؟… “لا تأخذني بعملي وعاملني بفضلك ولطفك وكرمك” “إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي أأعيش أو أموت “.

أصرخ بأعلى صوتي وكأني أملك المكان “هو سبحانه وأنا والبحر”، وأصبحت في سباق مع الزمن كل دقيقة لها وزنها وقدرها فلا أدري أتكون الدقيقة الأخيرة؟… وهل تكون هذه الدقيقة هي ما بقي لي على الدنيا أستغفر بها ربي وأشتري بها رضاه والحياة الخالدة .

يداي تجدف بكل قواها خشية الغرق… وعقلي يسترجع بكل قواه شريط العمر وما قــــدمت يداي… وقلبي يدعو بكل قواه ليغـــسل كل ما جناه لعلي ألقى الله بقلبٍ سَليم …

وبالرغم من أن الله لم يخذلني من قبل، وبالرغم من ثقتي برحمته ولطفه وكرمه إلاَّ أنه بدأ يدخل في نفسي إحساس بأن الموت قد يكون هو ما كتب الله لي في هذه الليلة .

وبدأت أفقد قواي حتى أصبح احتمال الموت ولقاء الله هو أَحلى الاحتمالات ـ بدأت أستسلم ـ ورأيت المبنى الكبير يصغر ويصغر وابتلعني الظلام الحالك فقررت أن أحتفظ بطاقتي وأحاول الطفو فوق سطح الماء ما استطعت .

رأيت بضع صيادين وحاولت الوصول إليهم دون جدوى، ورأيت كشافات أملت أن يكونوا حرس الحدود في طريقهم إلي ولكنهم غيروا اتجاهم فجأة فأصابني الإحباط… لا أدري كيف مَرَّت تلك الليلة بتلك السرعة، وبدأ الليل ينقشع فوجدت نفسي قد ابتعدت كثيراً عن الشاطئ، وبدأت أشعة النور تجلي ظلمة الليل فصليت الفجر واستحضرت معنى دعاء إبراهيم عليه السلام “فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون”،وفي هذا الوقت رأيت من على بعد مدخنة التحلية والتي كانت هي هدفي للوصول إليها ذلك الصباح .

وفجأة رأيت صياداً على مرأى مني فأخذت أسبح إليه بكل قوتي وكلما اقتربت تبين لي أنه يرفع المرساة فصرخت بكل صوتي فتوقف كالذي سمع صوتاً ولكن الموج حال بين عينيه أن تراني واتخـــذ طريقه في الاتجاه الآخر… ولكن وجــــوده في هذه المنطقة أشعرني بالأمل من أن هـــــذه منطقة يقصدها الصيادون، ولابد لي أن أجد أحــداً آخر، وبالفعل رأيت صياداً آخراً وكررت نفس المحاولة السابقة ولكن مرة أخرى حال الموج بيني وبينه .

قررت أن أستغل يومي وأن أسبح في اتجاه محطة التحلية حيث كان اتجاه الريح، وسبحت لمدة تسع ساعات متواصلة حتى توسطت الشمس قبة السماء، وأشعة الشمس تحرق رأسي كأنها نار منصبة عليه وبدلة الغوص تقطع لحمي… وأنا بين الدعاء بالرحمة واللطف وملامة النفس على الخطأ الفادح الذي أقحمت فيه نفسي إلى هذا الموقف العصيب المهلك، وألوم نفسي على إلقائي للسترة التي بها أستطيع أن أطفو .

مَرَّت علي عشر ساعات منذ بدأت السباحة تجاه التحلية وبحمد الله وكرمه أحرزت تقدماً جيداً حتى أصبحت مقابل مدخنة التحلية أرى عمائر الكورنيش ورأيت فرقاطة خاصة بحرس الحدود، بل ورأيت كابينة الفرقاطة من على بعد ولكن حال الموج بيني وبينهم، بل قُل رَدَمَني الموج ولم يصل صراخي إلى آذانهم… خلعت زعانفي وحملتها بيدي وأخذت ألوح بها وأصرخ بأعلى صوتي ولكن دون فائدة، ورأيت طائرة الدفاع المدني تحلق في الجو ولكنها بعيدة عني ولم أتخيل في تلك اللحظة أنهم جميعاً خرجـــوا بحثاً عني، أخذت نظارة الغوص أعرضها للشمس لعلهم يروا انعكـاس الشــمس على زجاجــــة النظارة ولكن هيهات أن أُمّيز بين أمواج البحر المتلاطمة .

وفقدت الأمل في كل هذه الطرق وأخذت أسابق الزمن لاستغلال ما تبقى من النهار قبل غروب الشمس، وكل حلمي آنذاك أن أصل إلى الشاطئ وأخرج منه واترجى أحد البائعين أن يسقيني ماءً ويطعمني قطعة من البسكويت، وأبحث عن سيارة أجرة وأطلب من السائق ان يأخذني لبيتي وأعده بأنني سأعوضه عن الضرر الذي سيلحق بمقعد سيارته من جراء بلل الماء .

وبدأ العطش يشتد عليّ وخيِّل لي أنني قد أجد عبوة ماء ملقاة في البحر من إحدى السفن أو القوارب، وبلغ العطش مني كل مبلغ فشربت بعض الماء المالح، وتذكرت آنذاك نصيحة الأطباء لي بالاكثار من شرب الماء حتى لا تتأثر حصوة الكلى عندي مرة أخرى وتذكرت ألم حصوة الكلى الذي باغتني قبل (3) أسابيع واحتجت لتخفيف الألم أن آخذ أشد أنواع المسكنات، فدعوت الله أن يلطف بي فيصرف عني ألم حصوة الكلى لعلمي ويقيني أن الألم الذي أصابني قبل بضع أسابيع لو باغتني الآن فإنه يعني حتماً الموت .

الأمل يتضاعف

أخذت أضاعف مجهودي للوصول إلى الشاطئ وفجأة تحول اتجاه الرياح فاستخرت الله “اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن في هذا الأمر وهو توجهي لهذا المبنى الشامخ على طريق الكورنيش الذي أراه من على بعد خيراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه ” ، وفجأة أصبح اتجاه الرياح إلى التحلية وأصبحت العمارة بجانبي بعد أن كانت أمامي وبدأت شمس يوم الجمعة بالغروب، وجن الليل وأظلمت الدنيا مرة أخرى من حولي، قربت من التحلية وسمعت أذان المغرب، فكان للأذان معنىً غير المعنى الذي عرفته طوال حياتي، بل وكأني أسمعه لأول مرة في حياتي “الله أكبر… الله أكبر…” أمل كبير برب كبير أكبر من كل محنة وكرب وكان هذا الأذان أول صوت بشر أســمعه على مدى أربع وعشرين ســــاعة فكان بمثابة بشـــرى من رب كــــريم أنـــه سينجيني بلطفه من هذا الكرب .

وتوضأت وصليت المغرب وأكملت مسيرتي نحو التحلية المضيئة أمامي، ومرة أخرى تغير اتجاه الرياح ودفعني نحو البحر فذهبت كل جهودي للوصول إلى التحلية أدراج الرياح فأصابني الإحباط، وعلمت بعد ذلك أن الله لطف بي أني لم أقترب أكثر من التحلية نظراً لوجود شفاطات ضخمة لم أكن لأفلت منها لو أنني اقتربت من الشاطئ ولكان موتاً محققاً .

وهنا باغتني الشيطان لأول مرة بكل قواه كأني أسمعه يحدثني بصوت عال في عرض البحر ويقول لي “لقد خذلك ربك، يريد الله أن يذلّك، ويلعب بك وستموت بعد ذلك لا محالة” سمعت صوت الشيطان مستهزئاً ساخراً، والعجيب في الأمر أن الصوت لم يكن من داخلي ولكنه صوت كأنه آت من الخارج أنظر حولي فلا أرى إلاَّ الأمواج والبحر ولا أسمع إلاَّ تلاطم الأمواج وهذا الصوت الساخر المستهزيء .
بادرت مرة أخرى بالوضوء وقاية وأمناً وحماية، ودعوت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وقرأت المعوذات ونفخت في يدي ومسحت كل جزء من جسدي، وأصرخ بأعلى صوتي حتى يرتفع صوتي عن صوت الشيطان الساخر أقول “يا معين أعني، يا مغيث أغثني” وأصلي على سيد الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم بأعلى صوتي لعل الله يحن عليّ بصلاتي على أحب خلقه إليه “صاحب شفاعة اليوم الأعظم”، وهنا سمعت أذان العشاء ومرة أخرى كان للأذان في نفسي أعمال هي من أعمال الآخرة وسكينة وطمأنينة وبشرى وأمل .

ولو أنني سُئلت أي الاثنين أشد عذاباً وتنكيلاً بي أهي الشمس الضارية الحارقة تسلخ جلدي بسياط لهيبها وتحرق جسدي بألسنة نيرانها أو إنه البرد القارس المؤلم الذي يفتت العظم ويمزق الجسد من الألم في منتـــصف الليل والقشعريرة والرجفة التي تصاحبها كل ليلة لما استطعت أن أجيب !

وكل الذي حال بيني وبين الموت من البرد في الليلتين هو أَحْقر من أن أذكره في قصتي هذه ولكني استحضرت فيه معنى العبودية والضعف الكامل لله. هل يمكن أن يُصَدَّق أن الذي حال بيني وبين الموت من البرد هي قطرات البول الساخنة الذي حَرصت أن أحتبسها في النهار وأبقيها ليلاً عندما تشتد علي القشعريرة وأخشى أن تنخفض درجة حرارتي “Hypothermia” فتكون هذه القطرات في داخــــل بدلة الغـــوص قطرات الحياة الدافئة .

ما أضعفك يا ابن آدم وما أجرأك على خالقك وأنت من أنت وهو ســــبحانـــه من هو… “ياأيهــــا الإنســان ما غرك بربك الكريم “.

أخذ مني الإرهاق كل مأخذ ووصلت إلى نقطة الاستسلام . اشتدت عليَّ القشعريرة فدعوت الله أن يخلصني من هذا الكابوس وناجيت ربي أسأله يارب لم يعد لي من قوة فقد يكون من الأفضل أن تأخذني اليك برحمتك. تذكرت والديَ وزوجتي وبناتي الثلاث ودعوت لهم فإني أعلم أنهم ليسوا ممن يقدر على تحمل مثل هذا الامتحان .

وأحسست براحة عميقة فكنت أخشى أن أنجو ثم أُعلم بأن أصدقائي لم ينجوا فألوم نفسي. كيف أنجوا ويهلكون؟ واستحضرت معنى أن الغريق في الجنة فأصبحت أرى نعيم الجنة في الموت وأعيش جحيم الماء في الحياة الذي أصبح أشبه مايكون بماء نار مسكوب علي وأصرخ بأعلى صوتي من الألم وقد كثرت جروحي وآلامي .

نظرت نظرة أخيرة فوجدت نفسي أبتعد أكثر فأكثر من اليابسة وعلمت أن البحر يبتلعني. استجمعت شتات فكري وأمري واستحضرت معنى الشهادة واستشهدت وأسلمت نفسي لله وأغمضت عيني واجتهدت في استقبال القبلة وودعت كل مافي الدنيا من ذكريات والآم وأفراح وأتراح واستقبلت ربي أدعوه أن يكتب لي الجنة وأن يكون ماء البحر قد غسل ذنوبي كلها وحمدت الله على هذه الموتة وأنني لم أمت موت الفجاءة حيث لاوقت للمراجعة والاستغفار .

تخيلت نفسي أشرب ماء البحر وأن الكرة الأرضية تنشق من تحتي وأنا أنزل فيها وبدأت في النزول وفجأة ناداني صوت صارخ “إنما هي شعرة بين حفظ النفس والانتحار وفيها مصيرك إلى جنة أو إلى نار” “إنك تنتحر”.فدفعت نفسي ثانية بكل ماتبقى لي من قوة وبدأت أسبح مرة أخرى ولكن قواي مالبثت أن خانتني ثانية والقشعريرة استنزفت مابقي لدي من قوة وأجد صعوبة في التنفس فعلمت أنها علامة ما قبل الموت . وبدأت أغوص وفجأة موجة قوية ترفعني إلى السطح فأخذت نفساً عميقاً بما تبقى لي من قوة فاستشعرت يد الله تحملني وترفعني ونسمة هواء عجيبة كأنها مُلئت بروح السماء وأنظر حولي فأرى أربعة أو خمسة دلافين “Dolphins” يطوفون بي في هذا الليل المظلم يصدرون تلك الأصوات الجميلة والتي طالما ظننتها صورة من صور تسبيحهم لخالقهم فأدركت أنها علامات الحياة يرسلها الله لي ليعلمني أنه سبحانه منجيني ولو بعد حين .

موج يرفعني ويحول بيني وبين البحر أن يبلعني ونسمة هواء معبأة بروح السماء تملأ رئتي وجسدي بالحياة. ومجموعة دلافين تطوف بي وتُسبح بحمد ربها بلغة لانفقهها. أنزل الله علي السكينة مرة أخرى وبدأت أفكر مرة أخرى بالنجاة. رأيت السفن من على بعد طوابير ينتظرون دخول الميناء وهم كقطع من المدن، قررت السباحة تجاههم بالرغم من علمي بخطورة ذلك ولكن ليس لي من خيار وبعض هذه السفن راسية ومحركاتها مغلقة فلعلي أصل إلى إحداها ولا أُسحق بمحركاتهم العملاقة .

توجهت إلى أصغرها واستطعت الاقتراب وأخذت أصرخ بأعلى صوتي باللغتين لعل أحداً يسمعني ومازلت في الثلث الأخير من الليل ولكن دون فائدة . ألهمني الله أن أضع أحد زعنفي تحت رأسي لأريح قدمي ولأستند على الزعنف لثوان قليلة فوجدت أن الموج يرفعني عندما أضع الزعنف تحت وجهي وأتخذه كوسادة وأغفو لثوانٍ قليلة قبل أن يلطمني الموج ويوقظني .

وألهمني الله في تلك الآونة أن أدعوه بقوله تعالى { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون} ولم أعلم آنذاك أن كلمة “المضطر” لم تذكر في القرآن الكريم إلا مرة واحدة في هذة الآية الثانية والستين من سورة النمل. وإن لها قصة عجيبة رويت لي بعد أن أكرمني الله بالنجـــــاة من الموت. وهي ما ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة رجل حكى فقال: كنت في سفر فركب معي ذات مرة رجل، فمررنا على بعض الطريق على طريق غير مسلوكة، فقال لي: خذ في هذه؛ فإنها أقرب، فقلت: لا خبرة لي فيها، فقال: بل هي أقرب، فسلكناها، فانتهينا إلى مكان وعر وواد عميق، وفيه قتلى كثيرة، فسل سكيناً معه وقصدني، ففررت من بين يديه وتبعني، فناشدته اللّه وقلت: خذ البغل بما عليه، فقال هو لي: وإنما أريد قتلك، فخوفته اللّه والعقوبة، فلم يقبل، فاستسلمت بين يديه، وقلت : إن رأيت أن تتركني حتى أصلى ركعتين،، فقال: عجل، فقمت أصلي، فارتج علي القرآن، فلم يحضرني منه حرف واحد، فبقيت واقفاً متحيراً، وهو يقول: هيه افرغ، فأجرى اللّه على لساني قوله تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء} (النمل): “62″ فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي، وبيده حربة، فرمى بها الرجل، فما أخطأت فؤاده، فخر صريعاً، فتعلقت بالفارس وقلت: باللّه من أنت؟ فقال: أنا رسول اللّه الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. قال: فأخذت البغل والحمل، ورجعت سالماً .

وبينما أنا أصارع الموت في الثلث الأخير من الليل بما تبقى لي من قوة وأُصَبُِّر نفسي وأقرأ هذه الآية إذا بخبطة قوية تأتيني من الخلف فوضعت نظارة الغوص فرأيت سمكة قرش من نوع “White Tip” ولي في أنواع القروش علم ودراية .

وكأنه يقول لي ماذا تفعل هنا أو أنه يدرسني وهذه من عادات القرش فبصره ضعيف ويعتمد على جسده في تحديد ماهية فريسته ووزنها ونوعها وتحليلاً للجسم بل طعمه وجنسه. وفجأة تبدد التعب والعطش وعادت لي قوتي وأحسست بهرمون الإدرنالين “Adrenaline Rush” كأنما ينسكب في دمي سكباً ليعيد لي الحياة والقوة للحفاظ عليها، وعلمت بعد ذلك دور هرمون الإدرينالين الذي يفرز من غدتي الكظر ” وهما الغدتان المتواجدتان فوق الكليتين” تحت أي ضغط أو توتر وهذا الهرمون يساعد على بدء مجموعة من التفاعلات الحيوية التي خُلقت من أجل مساعدة الجسم على التعامل مع الأزمة والتكيف معها. ففي البداية من هذه التفاعلات يفرز الكبد السكر في الدم للإمداد ببعض الطاقة حتى يستعد الجسم للهجوم أو الهرب، وعندئذ يكون التنفس أسرع حتى يمد الجسم بالمزيد من الأكسجين ثم يزداد معدل ضربات القلب حتى تضخ الدم بصورة أكبر لكي تحمل السكر الزائد والأكسجين إلى المخ والعضلات، كما يؤدي إفراز الإدرينالين إلى تأثيرات عديدة على الجسم، أهمها يزيد من قوة انقباض العضلة القلبية ويزيد من سرعة نظم القلب مما يؤدي إلى زيادة ملحوظة في النتاج القلبي، كذلك يؤدي افراز الإدرينالين إلى انقباض الأوعية الدموية المحيطية وتحويل سريان الدم من الجلد والأحشاء إلى العضلات الهيكلية والدماغ. فكانت تلك الضربة القوية هي أكثر ماأحتاج إليه لمواصلة المقاومة وعدم الاستسلام ولكني ضحكت في نفسي وناجيت ربي “يارب أهذا الذي ينقصني؟” “أدعوك ربي أن تنجيني فترسل لي قرشاً؟” أستجديك ربي بألوهيتك وربوبيتك إن أردت أن تأخذني إليك فخذني قطعة واحدة لا في فم هذا القرش ممزقاً أشلاءً، لم أر في حياتي قرشاً بهذا القرب وبدأ يحوم حولي فأخذت أحوم حول نفسي لأتأكد من نوعه فتيقنت أنه “White Tip” وهذا النوع من القروش قوي وذكي بل وعنده قدرة الصعود فوق الشعب المرجانية في حالة تعقبه لفريسته، وقد رأيت مثله من قبل وإن لم يكن بذلك الحجم في رحلة صيد وكنت أحمل سمكاً قد صدته فهاجم صيدي فألقيت له بالصيد كاملاً بما فيها بندقية الصيد لأفدي به نفسي. دعوت ربي أن يسخر لي هذا الوحش وأكثرت من الدعاء “أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق” “بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم”، واستمر القرش يحوم حولي وحجمه أكبر مني بكثير وقدرت طوله حوالي (3) أمتار، وازداد دعائي وتذللي إلى الله الذي يقول للشيء كن فيكون، والعجيب في الأمر أن الله ألهمني أن أدعوه بأن يسخر لي هذا الوحش الفتّاك ولم يلهمني أن أدعوه بصرفه عني. مرت ثلاث ساعات ومازال القرش يحوم حولي فتيقنت آنذاك أنه لم يؤمر بأن يفتك بي وإلا لفعل ذلك منذ ساعات فاطمأننت، بدأ فجر يوم السبت ينشق، توضأت لصلاة الفجر وأحسست مرة أخرى بقوة الوقاية والحماية والتحصين والدرع الذي يحيط بي بوضوئي هذا وصليت الفجر وأنا أحاذر من هذا القرش وأدعو الله أن يسخره لخـــدمتي ويقيني شر هذا البحر وينجيني منه .

ماذا يريد القرش؟ !

بعد الصلاة فوجئت بالقرش يقترب مني أكثر ويحوم حولي وك أنه يريد الهجوم عندئذٍ أدركت أنه إن هجم علي فأنا هالك لامحالة وعسى لو رأى مني محاولة للرد أن يعدل عن رأيه فجمعت كل ماتبقى لي من قوة. وقررت أن ألقي بجسدي كله عليه إن اقترب مني لعله يظن أن بي قوة ففعلت وارتطمت به فغاص إلى الأعماق ثم عاد مرة أخرى إلى السطح كأنه يقول لي “ياعبد الله لم أرد إيذاءك أو قتلك أو أكلك فلم يأذن لي أن أفعل ولو أذن لي لما رأيتني إلا وقد سلبت قطعة من جسدك وأنت لا تشعر. وعاد يحوم حولي ببطء كأنه يعلمني أنه موكل بمرافقتي في رحلتي هذه. فأصبح بعد ذلك بالنسبة لي بمثـــابة ســـمكة عادية تحوم حولي تؤنس وحشتي، وعندما أضاءت الدنيا أصبح بمقدوري أن أتيقن بما لاشك فيه أن القرش هو من الفصيلة التي ذكرت آنفاً وأنه لايريد الفتك بي بإذن خالقه فأصبح القرش أنيسي بعد أن كان همي ومصدر قلقي وخوفي .

أخذت اقترب من السفن ونسيت الآلام والعطش وقد غمرتني فرحة النجاة من القرش والاقتراب من السفن. وفي هذه الآونة سمعت صوت محرك ( حوامة حرس الحدود) توقعت أنهم لن يروني كما حدث قبل ذلك طوال الأربعين ساعة الماضية ولكنهم كانوا يقصدونني واقتربوا مني فخـــــلعت زعانفــي ورفعتها كما فعلت في محاولاتي السابقة لجلب الانتباه إليّ، وصاح أحدهم أأنت الدكتور حسام جمعـــة؟ فأجبت “بنعـــم” فقــال “أبشر لقد نجوت “.

حاولوا رفعي أولاً من يدي فسقطت من آلامي ثم ألقوا إليّ سلماً وصعدت الحوامة ولم أستطع الوقوف ولكني سجدت لله طويلاً فقال أحدهم أتركوه يسجد لله وباغتني النوم وأنا ساجد لله .

وقيل لي بعد ذلك أنني لو تابعت سباحتي في اتجاه السفن الضخمة لفتكت بي القروش هناك حيث إنها منطقة تُلقى فيها المواشي المريضة تسمى “بحر المواشي” قبل أن تصل إلى الميناء وتكثر فيها القروش ولما بقي مني قطعة واحدة ليتعرفوا بها علي .

وذهبــوا بي إلى مـــركز الحوامات وقدم لي سـكبة من الماء لم أذق في حياتي أطعــــم مــن مـذاقها كأنها سكبت من ماء الجنة .

وكان اسم الحوامة “زفاف” وبالفعل كان يوم زفافي مرة أخرى للدنيا وكانت فرحة منقذي بي غير معقولة كأنما زفت لهم حياتهم كذلك من جديد، وعلمت بعد ذلك أن المسافة التي قطعتها في 40 ساعة حوالي 50 كيلو متراً أي تقريباً المسافة من جدة إلى نقطة تفتيش الشميسي القريبة من مكة المكرمة .

أما بالنسبة لأصدقائي “طلعت مدني”، و”يوسف” فقد علمت أنه تم العثور عليهم من قِبل متطوعين “فريق/ محمد دباغ” يوم الجمعة في السابعة والربع صباحاً فحمدت الله على نجاتهم،وعلمت أن كل بيوت جدة كانت تدعو لنجاتي ممن أعرف ولا أعرف ومساجد وأئمة دعوا لي في تلك الجمعة الحاسمة من حياتي .

حصوة الكلى اختفت !

ذهبوا بي إلى المستشفى وتعجب الأطباء من معدلات الأملاح في الدم وغيرها من التحاليل التي يتعذر الحياة بمثل هذه المعدلات والأرقام . أما حصوة الكلى التي كانت عندي قبل أسابيع فبقدرة القادر سبحانه وتعالى اختفت تماماً ولم تترك أثراً في الأشعة وأغلب الظن أن الله تكفل بها وشفاني وخلصني منها وأنا في البحر .

ولم أنم لمدة يومــــين بعد نجاتي ومازلت اليوم بعد أسبوعين من الحادثة أنام ما لايزيد علي ثلاث ساعات في اليوم .

وتسألني اليوم ماالذي حدث لك؟ أقول لك إن الله أراد بي لطفاً وخيراً عظيماً يوم كتب الأرزاق والآجال واختار لي اسمي بسابق علمه .

“فجمعتي الحاسمة” تلك ستبقى لي ماحييت فاصلاً كالسيف الحاسم بين حياتي قبلها وحياتي بعدها. فما أنا اليوم ذلك الذي كنته بالأمس قبل جمعتي الحاسمة تلك وقد نذرت إلى ربي نذوراً كبيرة. أبسطها ألا أتكاسل عن صلاة الفجر في المسجد وأن أسخر حياتي للدعوة إلى الله وأن أسعى لتسخير وتجنيد قصتي هذه التي هي من آيات الله لإحياء النفوس وتذكير الناس والعودة بهم إلى الله وأن أمتثل قول الله تعالى {قُل إن صلاتي و نســـــكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين }.

وإنني اليوم لأنظر بعين غير تلك التي كنت أنظر بها وأسمع بأُذن غير تلك التي كنت أسمع بها وكل الأعمال والشعائر صبغت عندي بصبغة السماء فلا الآذان هو الآذان الذي كنت أعرفه ولا الوضوء هو الوضوء ولا الصلاة هي الصلاة ولا طعم الماء هو طعم الماء ولا تعظيم النعمة هو تعظيمها ولا الشعور بالأمان هو الشعور بالأمان ولا تقـــدير الصحة والعافية هو هو ولا الدعاء هو الدعاء .

كنت أنظر الدعاء “كمسدس ماء” واليوم أعلم أنه أشد وأمضى من أقوى قنبلة ذرية على وجه الأرض بل وفي تشبيهي هذا إنقاص للمعنى وسوء أدب مع خالق السماء والأرض. ولكني اجتهد في تقريب المعنى ما استطعت .

وأدركت ما في هذه الأمة من خير عظــــيم. أصـــــدقاء أعرفهم وغيرهم لا أعرفهـــم ذهبوا للبحث عني بالقوارب طوال الليل والنهار، وأناس لا أعرفهم ولا يعرفونني هجروا مضاجعهم وقاموا الليل يدعون الله أن يحميني وأنا هناك في وسط البحر.فأبى الله إلا أن يكون أرحم من قلوب الرحماء من أمته وأن يكتب لهم الأجر ولي النجاة[/color][/font][/size]