تاريخ العلمانية المصرية في سطور

بدأ انتشار الفكر العلماني الغربي في الوطن العربي مع دخول الإحتلال الفرنسي إلي مصر في عام 1798 ، ‏حيث كان أول احتكاك حقيقي وفعال بين الثقافة الإسلامية العربية وبين الحضارة الأوروبية الناشئة علي ‏مبادئ العلمانية المادية والمسيحية البروتستانتية ، وبخروج هذه الحملة العسكرية سريعاً ، لم ينته ذلك ‏الإحتكاك كما تصور الكثيرون ، بل كانت البداية لبناء جيل كامل من (النخبة) المثقفة في مصر والوطن ‏العربي التي تدين بالولاء لأصول هذه الحضارة الأوروبية الناهضة ، وقد كان العثمانيون في ذلك الوقت من ‏الضعف بحيث أنهم لم يتسطيعوا مواجهة ذلك المد الحضاري والثقافي لأوروبا في البلاد العربية.‏
كان لمحمد علي والي مصر أبلغ الأثر في نشر الفكر العلماني عن طريق إيفاد البعثات العلمية من الأزهر ‏الشريف إلي الجامعات الفرنسية ، حيث بهرت أضواء باريس هؤلاء المشايخ المعممين الذين جاؤوا من ‏الريف المصري بغير زاد حقيقي من العلوم الطبيعية ولا الشرعية التي تمكنهم بنجاح من خوض مواجهات ‏فكرية مع الحضارة الفرنسية ، فكان أن (تعلمن) هؤلاء المشايخ وعادوا إلي مصر مفتونين منبهرين ، ليس ‏بمفردات التقدم الماديّ الأوربيّ فقط ، وإنما بالأسس التي قامت عليها حضارة الأوربيين من (فصل للدين عن ‏الحياة العامة وخاصة النظم السياسية) و(إطلاق الحريات الشخصية) و (المساواة بين الرجل والمرأة) ، إلي ‏آخر المبادئ المعروفة التي احتفي بها رفاعة الطهطاوي (1801-1873 م) وغيره من تلامذة الغرب في تلك ‏الحقبة ، ولعل أفضل من كتب عن دور رفاعة الطهطاوي في مهاجمة الثقافة أفسلامية في مصر هو فضيلة ‏الدكتور هاني السباعي في بحثه القيم “دور رفاعة الطهاطاوي في تخريب الهوية الإسلامية” المنشور في ‏مركز المقريزي للدراسات التاريخية.‏

فبدأت جحافل الإبتعاث في عهد محمد علي تفد علي بلاد الغرب ، بغير حصن فكري وثقافي ولا عتاد علمي ‏يمنع هؤلاء المبتعثين السذج من الإنبهار والسقوط فى دائرة التحلل الديني والثقافي ، و بدأ الإستطدام بين ‏الإسلام والعلمانية الغربية عند عودتهم إلي مصر ، وبدأ هؤلاء الأزاهرة المخدوعين فى تصوير التقدم العلمي ‏الذي سيطر على عقولهم فى بلاد الغرب بأنه منتهي المراد وغاية المقصود من حياة الإنسان ، بل وتصور ‏بعض هؤلاء أن فى هذا التقدم المادي الغربي ذرائع لنقض الكثير من أحكام الإسلام والتحلل من قدسية ‏الوحيين ، وذلك بحجج كانت من الحق الذي أريد به الباطل كتغير الفتوي بتغير الزمان ومواكبة الشريعة لكل ‏العصور وما إلي ذلك ، ومما ساعد على نشر هذا الفساد الثقافي الدعم السياسي من محمد علي سرششمة ‏وخلفاؤه لهؤلاء المستغربين بدوافع عديدة من الدول الأوروبية ، أهمها إضعاف الخلافة والتمهيد للنظام ‏العالمي الجديد الذي كان محل النقاش والمشاورة فى الدوائر السياسية والعسكرية والثقافية الغربية فى أثناء ‏عصر الإحتلال العالمي خاصة بعد الحروب العديدة التي خاضتها بلاد أوروبا ضد بعضها البعض ، فكان هذا ‏السرششمة ومعظم أبناؤه من أخلص خدام الصليب الغربي ومن أكثر جنود أوروبا ولاء لسياستها فى المشرق ‏العربي

يقول فضيلة الأستاذ الشيخ محمود شاكر فى كتابه الماتع “رسالة فى الطريق إلي ثقافتنا” عن محمد علي الذي ‏عمل علي تأسيس أول جيل من العلمانيين المصريين:‏
‏” كان محمد علي سرششمة هذا ، الذي أسند إليه أمر ولاية مصر فى سنة 1805 م (1220 هــ) فى ‏الخامسة والثلاثين من عمره وكان جاهلا لم يتعلم قط شيئاً من العلوم وكان لايقرأ ولا يكتب وقضي أكثر ‏عمره تاجراً يتاجر فى الدخان (الطباق) ثم انضم إلى الجند ولكنه كان ذكيا داهية عريق المكر ، يلبس لكل ‏حالة لبوسها ، وكان مغامراً لا يتورع عن كذب ولا نفاق ولا غدر ، وفى أثناء مقامه فى مصر من سنة ‏‏1801 إلى سنة 1805 يراقب اضطراب الأمور واختلال غدارتها وبنظره الثاقب وذكائه خالط المشايخ ‏والقادة والمماليك الذين حاولوا العودة إلي ولاية الأمور فى مصر ، فنافقهم جميعا ، وأظهر لجميعهم المودة ‏والنصح وسلامة الصدر حتي انخدع به المشايخ والقادة وآثروا ولايته على ولاية المماليك فنصبوه واليا على ‏مصر وعلى رأس من انخدع به السيد عمر مكرم أكبر قائد للمشايخ والجماهير فبذل كل جهده فى إسناد ‏ولايته إليه ، وكان ما أراد الله أن يكون“ أ.هــ

إستمر ذلك الجيل من العلمانيين الأزاهرة حيناً من الزمان ، ومع دخول المحافل الماسونية إلي ديار الإسلام ‏خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، ظهر جيل من العلمانيين أقوي من سابقه ‏، رجاله مسلحين بالفلسفة والمنطق والخطابة ، وظهر منهم الإقتصاديين والساسة وكبار رجال الدولة ، فحدث ‏أن أصبح (نخبة) الدولة في مصر في تلك الحقبة مكونة تكويناً خالصاً من (العلمانيين) المتنكرين لمفردات ‏الحضارة الإسلامية بشكل كامل ، والساعين لنسخ الحية الأوروبية في مصر نسخاً دقيقاً يحول مصر من بلد ‏‏(إسلامية) حتي ذلك الحين إلي بلد (علمانيّ) كفرنسا وإنكلترا وغيرهما من الدول الأوروبية الناهضة مادياً في ‏ذلك الحين.‏
كان التحدي الذي واجه الجيل الثاني من العلمانيين العرب ، كقاسم أمين (1863-1908) والأفغاني (1838-‏‏1897) وأحمد لطفي السيد (1872-1963) وغيرهم ، أن التراث الإسلامي كان متأصلاً إلي حد كبير بين ‏طلاب الأزهر ومشايخه ممن لم يسافر إلي أوروبا – وهم الأغلبية في ذلك الوقت – وكان تأصل ذلك التراث ‏مانعاً حقيقياً يحول بين انتشار الفكر العلماني ومفرداته بين طبقات الشعب المصري التي كانت تبجل ‏الأزهريين وتنقاد لهم في ذلك الوقت ، ويرجع تأصل التراث الإسلامي بين الأزهريين وطبقات الشعب ‏المصري عامة إلي سببين ، الأول يتلخص في مكانة المذاهب الفقهية الأربعة عند الأزهريين والشعب بأكمله ‏، وجعلت تلك المذاهب الأربعة ، بتفصيلها الواضح وتدوينها لكل المسائل المتعلقة بالحياة الخاصة والعامة ، ‏أبناء الشعب يستنكرون العديد من مفردات الثقافة العلمانية الجديدة ، والسبب الثاني هو التقاليد المصرية التي ‏كانت في ذلك الوقت خليط من التقاليد العربية الأصيلة والتقاليد التركية المحافظة ، فكان من الصعوبة البالغة ‏علي الجيل الثاني من العلمانيين أن يتقدموا في نشر فكرهم وثقافتهم مع إصطدامهم شبه الدائم مع المذاهب ‏الأربعة ومع تقاليد المجتمع ، فكان أن واجهوا تلك التحديات بأمرين: الأول هو ما أسموه (فتح باب الإجتهاد) ‏و(التجديد الديني) ولم يقصدوا بهذا فتح باب الإجتهاد لاستنباط أحكام فقهية تناسب التطور العلمي والمادي ‏للأمة الإسلامية ، كلا ، بل قصدوا (إعادة كتابة أحكام الشريعة الإسلامية بما يناسب تبعية الدول الإسلامية ‏للغرب ثقافياً وحضارياً) ، فظهرت الدعوات (لنبذ المذهبية) تحت راية (نبذ التعصب) ، وشتان بالطبع بين ‏المذهبية والتعصب ، والأمر الآخر الذي واجهوا به التقاليد الإجتماعية والثقافية في مصر هو ما أسموه (الفن) ‏فكان أن أنشأت الفرق المسرحية علي يد فريق من غير المصريين ، بل من غير المسلمين ، علي رأسهم ‏يعقوب صنوع (1839-1912) وجورج أبيض (1880-1959) ، وأخذت هذه الفرق المسرحية باستخدامها ‏لعوامل الإبهار الفني الجديدة تسيطر علي وعي الطبقة المتوسطة من المصريين آنذاك وتهاجم كل التقاليد ‏المحافظة للمجتمع المصري ، كالفصل بين الرجال والنساء ، وارتداء البرقع (النقاب) للنساء والترابط ‏الأسري والعائلي ، إلي آخر قائمة الفضائل ومفردات الثقافة الإسلامية المصرية حينئذ.‏
أما علي الجانب السياسي ، فقد عملت نخبة من رجال الدولة العلمانيين آنذاك علي إذكاء فكرة (القومية ‏العربية) وفكرة (القومية المصرية) بين طلاب الجامعات والنقابات العمالية ، وكانت دعوتهم تقوم أساساً علي ‏فكرة واحدة : هي قطع الصلة بين مصر والعالم الإسلامي ، واستبدال القومية العربية/المصرية بالقومية ‏الإسلامية القائمة علي مبدأ (الخلافة) ومبدأ (وحدة المسلمين). ومن أشهر هؤلاء سعد زغلول (1858 - ‏‏1927) ومكرم عبيد (1889–1961). ‏

فكانت هذه المحاور الثلاثة هي خط المواجهة بين العلمانية والثقافة الإسلامية في مصر: هدم المذهبية ‏الفقهية بدعوي (التجديد) و(الإجتهاد) – إستخدام عناصر الفن لهدم التقاليد المحافظة – الدعوة للقومية ‏العربية/المصرية في مواجهة الدعوة الإسلامية لإحياء الخلافة توحيد المسلمين.

هذه المحاور الثلاثة هي خط المواجهة بين العلمانية والثقافة الإسلامية في مصر:


هدم المذهبية ‏الفقهية بدعوي (التجديد) و(الإجتهاد)
إستخدام عناصر الفن لهدم التقاليد المحافظة
[B]الدعوة للقومية ‏العربية/المصرية في مواجهة الدعوة الإسلامية لإحياء الخلافة توحيد المسلمين.

[/b]