الرسول وأخلاق ما بعد النصر .. د/ راغب السرجاني

[CENTER][SIZE=“3”]

تُنسِي نشوة النصر كثيرًا من القادة قواعد الأخلاق الأساسية، فنسمع عن استباحة للبلاد، وإراقة للدماء، وخراب للعمران، وخُلْفٍ للعهود والوعود… لكن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النصر كان بعيدًا كل البعد عن هذه الشرور والآثام، وسنتعرض بإذن الله لطرف من أخلاقه في هذا الموقف، وذلك من خلال المطالب الآتية:

المطلب الأول: العفو عند المقدرة
لم تكن المعارك التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون بهدف التشفِّي أو الانتقام من المشركين الذين مارسوا مع المسلمين شتى أنواع التعذيب، وحاولوا إبادتهم في كثير من الأحايين، لكن المسلمين احتسبوا كل ذلك عند الله عز وجل، ويؤكد هذا الأمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من المواقف كان يستطيع -من دون شك- أن يقتل من يريد من المشركين، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يتعامل بالحسنى والعفو والصفح، بل وينكر وبقوَّة على من يخالف هذا الأمر. لقد كان هذا العفو من العلامات المميِّزة له صلى الله عليه وسلم، حتى ذكرها رب العالمين في صفته في كتب الأولين، فقد قال زيد بن سعنة -رضي الله عنه- أنه قد جاء في التوراة أنه “يَسْبِقْ حِلْمُهُ جَهْلُهُ، وَلَا يزِيده شِدَّةُ الجَهْلِ عَليِه إِلا حلمًا”.
من نماذج هذا العفو ما رواه مسلم في صحيحه في صلح الحديبية عن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: “… ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى بعضنا في بعض واصطلحنا… قال: فلمَّا اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة؛ فكسحت شوكها؛ فاضطجعت في أصلها. قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأبغضتهم، فتحوَّلْتُ إلى شجرة أخرى، وعلَّقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي: يا لَلْمُهاجرين…!! قُتِلَ ابنُ زُنَيْم، قال: فاخترطت سيفي، ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رُقُود؛ فأخذت سلاحهم؛ فجعلته ضِغثًا في يدي، قال: ثم قلت: والذي كَرَّمَ وجهَ محمد لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه (يعني: رأسه!!)، قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء عمي عامر برجل من العَبَلات يقال له: مِكْرَزٌ يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس مُجفَّف في سبعين من المشركين؛ فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: «دَعُوهُمْ يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُورِ‏ ‏وَثِنَاهُ» فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح: 24]… قال: ثم خرجنا راجعين إلى المدينة…” الحديث.

هكذا ببساطة… لم ينتقم، فيسفك الدماء، وينتهك الأعراض، وينهب الدُّور، بل العفو هو شيمته صلى الله عليه وسلم في كل وقتٍ، وفي مواجهة كل عدو، وسيأتي بإذن الله تفصيل لموضوع العفو عن الأسرى في باب قادم.

ثم إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعفو عن الأفراد الذين لا يقدمون كثيرًا ولا يؤخرون في سير الأحداث فقط، بل كان يعفو عن شعوب كاملة، وأمم بأسرها، وذلك خُلُق فريد في القادة الحربيين؛ أن يعفوا عن شعوبٍ ناصبتهم وجيوشَهم العَدَاء، وحاربتهم طويلاً، وقتلت منهم الكثير، وسَامَتْهُم سوء العذاب عندما كانت تتحكم فيهم، ولكن لأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن شِيَمه العظيمة العفوُ؛ فقد عفا كثيرًا، ومن أشهر مواقفه في هذا الصدد عفوه عن أهل مكة.

إن الكلمات الخالدة التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل مكة يوم فتح مكة ينبغي أن تُكتَب بماء من ذهبٍ، فهي إنما تُنبِيء عن معدن نفيسٍ نقيٍّ غاية النقاء… قال صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ اللّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظّمَهَا بِالْآبَاءِ، النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ»، ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تُرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟» قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطّلَقَاءُ».

ولم يكن هذا العفو خاصًّا بأهل مكة فقط، حتى لا يقول أحدٌ أنهم -أي أهل مكة- الأهل والعشيرة ولذلك عفا عنهم، بل كان هذا يحدث مع كثير من الشعوب والقبائل بصرف النظر عن أصولهم وأجناسهم، وما أروع موقفه صلى الله عليه وسلم مع قبيلة هوازن، وذلك بعد انتصار غزوة حنين المهيب، مع العلم أن جذور هوازن بعيدة جدًا عن قريش التي ينتمي إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن التاريخ يُثْبِت خلافات عميقة بين القبيلتين. ولكي نقدِّر عظمة أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم لا بد لنا من العودة إلى التاريخ بعض الشيء، لكي نتعرف على جذور هذه القبيلة وعلاقتها بقريش، فكما نعلم أن العرب بصفة عامة ينقسمون إلى قسمين رئيسيين عدنانيين وقحطانيين، ثم ينقسم العدنانيون بدورهم إلى ربيعة ومضر، ومضر تنقسم إلى إلياس وعيلان, وهما فرعان كبيران جدًا، وتأتى قبيلة قريش من فرع إلياس بعد تفرعات كثيرة، وتأتي قبيلة هوازن من عيلان بعد تفرعات كثيرة أيضًا، وكما هو معروف كلما بعدت الأنساب ازدادت الحساسيات بين القبائل، وفقد الناس الشعور بالرحم التي ينتمون إليها، وقد كانت الصراعات والتنافسات تقوم بين أولاد العمومة كبني هاشم وبني مخزوم، وكالأوس والخزرج، فما بالكم بهذه الفروع البعيدة! ولقد أكل الحقد والخوف قلوب أهل هوازن عندما شاهدوا التقدم الملموس للحركة الإسلامية، خاصَّة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرشي، ومن ثمَّ جمعت هوازن مع أولاد عمومتهم ثقيف أكثر من خمسة وعشرين ألفًا من المقاتلين بهدف استئصال المسلمين استئصالاً كاملاً من الوجود، فكانت غزوة حنين الخطيرة، ولكن الله عز وجل شاء أن يكتب النصر للمسلمين بعد هِزَّةً سرعان ما تماسكوا بعدها، وبعد المعركة غَنِم المسلمون غنائم كثيرة من الإبل والشياه، وأسروا عددًا مهولاً من المشركين بلغ في بعض الروايات ستة آلاف، ووزَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الغنائم كلها على الجيش المنتصر، وأعطى المؤلفة قلوبهم عطاءً سخيًا، ونفدت كل الغنائم ولم يحتفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه بأيِّ شيء!!

وبعد انتهاء توزيع الغنائم حدثت مفاجأة ضخمة لم تكن متوقعة…!!

لقد جاء وفدٌ من قبيلة هوازن إلى وادي الجعرانة، لإعلان الإسلام أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الوفد يُمَثِّل كلَّ بطون هوازن ما عدا ثقيف، وذلك بعد أقلِّ من شهرين من حرب حُنَيْن الهائلة، وذلك بعد أن فقدوا كل شيء، فقد خسروا نساءهم وأبناءهم، وأموالهم، وأنعامهم، وكانوا قد فَرُّوا إلى الطائف مع ثقيف، وما استطاعوا الخروج لحرب المسلمين، وكان من الممكن أن يفقدوا ديارهم ويعيشوا عمرهم لاجئين عند ثقيف في الطائف، ولكنهم فكَّروا في العودة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد يقبل منهم إسلامهم، ويعيد إليهم بعض الممتلكات.

وأعلن وفد هوازن الإسلام أمامَ النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله إنَّا أهلٌ وعشيرةٌ، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامنن علينا مَنَّ الله عليك.

لقد أصبح الموقف في غاية الحرج، فها هي القبيلة الضخمة هوازن تأتي لتعلن إسلامها، ولتسترد بعض ما ذهب منها، ومن المحتمل أن يرتدوا إذا لم يستردوا أسراهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكرنا- قد قسَّم كل الغنائم على الجيش، فأربعة أخماس الغنائم قُسِّمت على أفراد الجيش العام، وقُسِّمَ الخُمسُ الباقي على سادة القبائل وطلقاء مكة وغيرهم من المؤلفة قلوبهم، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم هذه العطايا ليتألّف بها الناس، ولو أخذ النبي صلى الله عليه وسلم منهم ما أعطاهم لارتدوا عن الإسلام، فهو يريد إسلام هوازن، وفي الوقت نفسه يريد ثبات أهل مكة وزعماء القبائل، فكيف الخروج من هذه الأزمة؟!

قال الرسول صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن: «أَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبّ إلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ؟» فقالوا: يا رسول الله خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا؟ بل أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا؛ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أَمّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، وَإِذَا مَا أَنَا صَلّيْت الظّهْرَ بِالنّاسِ فَقُومُوا فَقُولُوا: إنّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِالْمُسْلِمِينَ إلَى رَسُولِ اللّهِ فِي أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا، فَسَأُعْطِيكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَسْأَلُ لَكُمْ».

فلمّا صَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر؛ قاموا فقالوا ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: «أَمّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ»؛ فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس بن مرداس السلمي: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عباس بن مرداس لبني سليم: وهنتموني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَمَسّكَ مِنْكُمْ بِحَقّهِ مِنْ هَذَا السّبْيِ فَلَهُ بِكُلّ إنْسَانٍ سِتّ فَرَائِضَ مِنْ أَوّلِ سَبْيٍ أُصِيبُهُ». فَرَدّوا إلَى النّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ.

وبهذا وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هوازن إلى حَلٍّ وَسَطٍ، بإعادة نسائهم وأبنائهم، مع إشعارهم أنه معهم قلبًا وقالبًا، وأقنع المسلمين في ذات الوقت بترك الأسرى والسبي ابتغاء مرضاة الله عز وجل، وترك لهم الغنائم.

وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم هو مُنتهَى الحكمة، وبه انتهت مشكلة هوازن، ودخلت في الإسلام بنفسٍ راضيةٍ، وقد تيقنت أنها تتعامل مع رسول، وليس مع مجرد زعيم أو قائد، وما أعتقد أن في تاريخ الأمم مثل هذا الرقي في التعامل مع العدو بعد النصر! ولم يكن هذا ليحدث لولا أن إسلام القوم كان أحب إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموالهم وغنائمهم، ولولا أن القتال كان خالصًا لله عز وجل، فما أعظمَ عفوك يا رسول الله!

المطلب الثاني: العفو عن زعماء الأعداء

في المطلب السابق مر بنا كيف تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعفو مع غير المسلمين، فذكرنا إحسانه وكرمه في تعامله معهم بكل طوائفهم، بل ذكرنا كيف تعامل بالعفو مع المدن والشعوب التي آذته كثيرًا، كأهل مكة وهوازن، وهو ما يكاد أن يكون نادرًا تمامًا في تاريخ أيِّ أمة من أمم الأرض. وإذا كانت الصور السابقة من صور التعامل نادرة، فإن الصورة التي سنتناولها في هذا المطلب تكاد تكون مستحيلة!!

إننا سنتناول في هذا المطلب عفوه صلى الله عليه وسلم عن زعماء الأعداء الذين قاوموه وحاربوه سنواتٍ عديدة… سنتناول عفوه عن أولئك الذي جَيَّشُوا الجيوش، وحزَّبُوا الأحزاب لاستئصال شأفة المسلمين…

سنتناول عفوه مع أولئك الذين لم يكتفوا بالسخرية منه والكيد له، بل حفَّزوا الآخرين على فعل ذلك، وكانوا في فترة من فترات حياتهم أكابر المجرمين، وقادة الضالين… بل إننا سنتناول عفوه عن أولئك الذين دبَّروا المحاولات تلو المحاولات لقتله هو شخصيًا، فما ترك ذلك في قلبه حقدًا، وما أورث غِلاًّ، وما غيَّر من أخلاقه المعهودة، ولا من طبيعته الرقيقة صلى الله عليه وسلم… ونظرة إلى ما يفعله عموم القادة في العالم مع زعماء أعدائهم توضِّح بجلاء عظمة الأخلاق النبوية ونبلها!

ولعل من أروع الأمثلة على هذا الأمر موقفه صلى الله عليه وسلم مع عكرمة بن أبي جهل أحد كبار زعماء مكة!

كان عكرمة من أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم ضراوة في تاريخ السيرة كلها، وقد شرب العداوة جُلَّ هذه المدة الطويلة من أبيه فرعون هذه الأمة وألدِّ أعداء الإسلام أبي جهل… ولكن عكرمة استمر وزاد في العداوة للدرجة التي جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يُريق دمه عند فتح مكة باعتباره من مجرمي الحرب آنذاك…

وكان عكرمة من القليل الذي قاتل في الخندمة ضد خالد بن الوليد -رضي الله عنه- ، ولكنه بعد هزيمته فرَّ من مكة المكرمة وحاول أن يصل في فراره إلى اليمن، وذهب بالفعل إلى البحر ليأخذ سفينة وينطلق بها إلى اليمن…

إن طريقه في الكفر طويل، وهو مطلوب الدم، وإذا وجده الرسول صلى الله عليه وسلم سيقتله بلا جدال.

وقد أرادت زوجة عكرمة أم حكيم بنت الحارث بن هشام أن تنقذ زوجها، فذهبت -بعد أن أسلمت- إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لتشفع عنده لعكرمة بن أبي جهل في أن يعود إلى مكة المكرمة آمنًا، وقالت: “قد هرب عكرمة منك إلى اليمن، وخاف أن تقتله فأمِّنْهُ”… فرد الرسول صلى الله عليه وسلم في يسر وسهولة: «هُوَ آمِنٌ» !!

لم يذكر لها صلى الله عليه وسلم أنه مهدَر الدم، ولم يذكِّرْها بتاريخه الطويل، ولم يقل لها: أنت حديثة الإسلام جدًا فكيف تشفعين لغيرك؟! لم يقل لها أيًا من ذلك، ولم يشترط عليه أو عليها شروطًا، وإنما قال: «هُوَ آمِنٌ»!

وخرجت أم حكيم الزوجة الوفية تبحث عن زوجها، وذهبت حتى وصلت في رحلة طويلة إلى عكرمة وهو يحاول أن يركب سفينة في ساحل البحر الأحمر متجها إلى اليمن، فقالت له: “يا ابن عم، قد جئتك من عند أَوْصَلِ الناس، وأبرِّ الناس، وخيرِ الناس… لا تُهلك نفسك، إني استأمنت لك محمدًا صلى الله عليه وسلم”. فقال لها: أنت فعلتِ هذا؟! قالت: نعم.

وعكرمة بن أبي جهل في ذلك الوقت يرى الدنيا كلها قد ضُيِّقَتْ عليه، فأين يذهب؟ إنه يريد أن يذهب الآن إلى اليمن، واليمن بكاملها مسلمة، وبقاع الأرض تتناقص من حوله، والجميع الآن يدخلون في دين محمد صلى الله عليه وسلم وحِلفه، فأخذ عكرمة قرارًا سريعا بالعودة معها دون تفكير طويل.

وقبل أن يدخل عكرمة مكة إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه كلمات جميلة… قال: «يَأْتِيكُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا، فَلا تَسُبُّوا أَبَاهُ، فَإِنَّ سَبَّ الْمَيِّتِ يُؤْذِي الْحَيَّ، وَلا يَبْلُغُ الْمَيِّتَ».

فأيُّ أخلاق كريمة كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه؟!

لقد كان أبو جهل فرعون هذه الأمة، ومع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة -رضي الله عنهم- بألا يلعنوا أبا جهل أمام ابنه عكرمة؛ لكي لا يؤذوا مشاعره، مع أن عكرمة لم يُسلم حتى هذه اللحظة…

ودخل عكرمة بن أبي جهل إلى مكة المكرمة، ومن بعيد رآه الرسول صلى الله عليه وسلم، فماذا فعل…؟!

هل تذكَّرَ أبا جهل؟! هل استعاد بذاكرته الغزوات التي شارك فيها عكرمة صادًّا عن سبيل الله…؟! هل فكَّر في قتال عكرمة للمسلمين منذ أيام عند الخندمة…؟! هل نظر إلى حالة الضعف والهوان الشديد التي جاء بها عكرمة، فأراد أن يُلَقِّنَهُ درسًا يعرف به قوة الدولة الإسلامية؟!

إنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل أيًا من هذا الذي يتوقعه أي سياسي!!

لقد وثب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عكرمة وما عليه رداء فرحًا به، وانبسطت أساريره وهو يرى عكرمة بن أبي جهل يعود إليه، مع أنه لم يسلم بعد، لكن هذه هي طبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تكلف…

وجلس عكرمة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا محمد، إن هذه (وأشار لزوجته) أخبرتني بأنك أمَّنتني!

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم دون تفصيلات ولا شروط: «صَدَقَتْ فَأَنْتَ آمِنٌ».

فقال عكرمة: إلام تدعو يا محمد…؟

فقال له: «أَدْعُوكَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَأَنْ تُؤْتِيَ الزَّكَاةَ». وتفعل، وتفعل… وأخذ يعدد عليه أمور الإسلام، حتى عدَّدَ له كل الخصال الحميدة.

فقال عكرمة: ما دعوتَ إلا إلى الحق وأمر حسن جميل…!!

والقلوب بين أصابع الرحمن يقلِّبُهَا كيف يشاء، ففي هذه اللحظات فقط شعر عكرمة بن أبي جهل -رضي الله عنه- أن كل ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم كان حقًّا، وأن كل ما تحدَّثَ عنه قبل ذلك أيام مكة وبعد مكة كان صدقًا، وكان من كلام النبوة والوحي…!! وهنا قال عكرمة بن أبي جهل: قد كنتَ -والله- فينا تدعو إلى ما دعوت إليه، وأنت أصدقُنا حديثًا، وأَبَرُّنَا بِرًّا، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله.

وفي لحظة واحدة انتقل عكرمة من معسكر الكفر إلى معسكر الإيمان!!

ثم قال عكرمة: يا رسول الله، علمني خير شيء… فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «تَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ». فقال عكرمة: ثم ماذا؟ قال: «أَنْ تَقُولَ: أُشْهِدُ اللَّهَ، وَأُشْهِدُ مَنْ حَضَرَ أَنِّي مُسْلِمٌ وَمُهَاجِرٌ وَمُجَاهِدٌ». فقال عكرمة هذه الكلمات… فقال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يعرف أن عكرمة ما زال حديث عهد بالإسلام، ويحاول قدر المستطاع أن يقرِّبه إلى الدين: «لا تَسْأَلُنِي الْيَوْمَ شَيْئًا أُعْطِيهِ أَحَدًا إِلا أَعْطَيْتُهُ لَكَ». فلم يطلب عكرمة بن أبي جهل مالاً، أو سلطانًا، أو إمارة، وإنما طلب المغفرة فقال: فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتُكَهَا، أو مسيرٍ أوضعت فيه، أو مقام لقيتك فيه، أو كلام قلته في وجهك، أو أنت غائب عنه. فقال صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ كُلَّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا، وَكُلَّ مَسِيرٍ سَارَ فِيهِ إِلَى مَوْضِعٍ يُرِيدُ فِي هَذَا الْمَسِيرِ إِطْفَاءَ نُورِكَ، فَاغْفِرْ لَهُ مَا نَالَ مِنِّي مِنْ عِرْضٍ فِي وَجْهِي، أَوْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهُ». فقال عكرمة: رضيتُ يا رسول الله… ثم قال صادقًا: لا أدع نفقةً كنت أنفقها في صدٍّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً كنت أقاتل في صد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله.

ووهب عكرمة حياته للجهاد في سبيل الله سواء في حروب الردة، أو في فتوح الشام، حتى قُتِلَ شهيدًا -رضي الله عنه- في اليرموك…! ولننظر كيف بدَّل الله عز وجل حياته كاملة بحسن استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم له، وبتأمينه إياه، وبغفرانه له كل التاريخ الأسود الذي كان له مع المسلمين؛ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: «لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»، وفي رواية: «خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ».

وما ذكرناه في حق عكرمة -رضي الله عنه- ينطبق كذلك على سهيل بن عمرو، الزعيم القرشي المشهور!

كان سهيل بن عمرو من كبار زعماء قريش بل مكة، وكان من الزعماء الذين لهم تاريخ أسود وطويل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من كبار السن، وله من الأولاد الكثير، وكان معظم هؤلاء الأولاد في جيش المسلمين الفاتح لمكة، وبعد أن فُتِحَ البلد الحرام لم يجد له عونًا من الزعماء الذين كانوا معه قبل ذلك، فقد فرُّوا أمام الجيش الإسلامي، ففرَّ هو الآخر ودخل بيته كما يقول: “فانقحمت في بيتي، وأغلقت عليّ بابي”!!

ثم يقول: “وأرسلتُ إلى ابني عبد الله بن سهيل -وهو من جنود الجيش الإسلامي الفاتح- أن اطلب لي جوارًا من محمد، فإني لا آمن من أن أُقتل، فليس أحد أسوأ أثرًا مني؛ فإني لقيت الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بما لم يلقه أحد، وكنت الذي كاتبته، مع حضوري بدرًا وأُحُدًا ضد المسلمين”.

إنه لصاحب تاريخ طويل في الصدِّ عن سبيل الله، وكان صارمًا وعنيدًا جدًا يوم الحديبية، ثم إنه رفض انضمام ابنه إلى صف المسلمين برغم شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، ولكنه الآن يقف موقفًا صعبًا خطيرًا يجعل احتمال قتله واردًا جدًا، وتملَّكه الرعب إلى الدرجة التي جعلته لا يتردد في أن يطلب من ابنه الصغير أن يتوسط له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم !! وفي هذا -كما هو واضح- ما فيه من جُرحٍ عميقٍ لنفس الزعيم الكبير…

يقول سهيل بن عمرو: ذهب عبد الله بن سهيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أَمّنْه.

فقال صلى الله عليه وسلم دون تردد: «نَعَمْ، هُوَ آمِنٌ بِأَمَانِ اللَّهِ، فَلْيَظْهَرْ»!!

ولنقارن هذا التعامل من الرسول صلى الله عليه وسلم مع كبار زعماء مكة المكرمة بما يحدث عند احتلال دولةٍ لدولة أخرى…!! إننا نرى الأمراء والوزراء والكبراء في البلد المغلوب وقد استُهْدِفُوا بالقتل أو النفي أو السجن لفترات طويلة، ولا يخفى على أحد مدى الإهانة التي يتعرضون لها، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكتفي بإعطاء الأمان لزعماء العدو، بل ويَحُضُّ الجميع على احترامهم، وعلى عدم التعرُّض لهم بكلمة جارحة، ولا حتى بنظرة مؤذية، فيقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في رُقِيٍّ عجيبٍ، وفي أدبٍ رفيعٍ: «مَنْ لَقِيَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فَلَا يَشُدَّ النَّظَرَ إِلَيْهِ»!!

إن الرسول صلى الله عليه وسلم يمنع الصحابة من أن يشددوا النظر إلى سهيل بن عمرو شماتةً فيه، أو تشفيًّا منه! بل إنه يفعل ما هو أعظم من ذلك، فيمدح سهيلاً، ويُثني عليه، فيقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «… فَلَعَمْرِي إِنَّ سُهَيْلاً لَهُ عَقْلٌ وشَرَفٌ، وَمَا مِثْلُ سُهَيْلٍ جَهِلَ الْإِسْلَامَ، لَقَدْ رَأَى مَا كَانَ يُوضَعُ فِيهِ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِنَافِعِ».

والكلمات تُعجزنا عن التعليق!!

وانطلق عبد الله بن سهيل إلى أبيه ليخبره بعفو الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فلما ذكر له هذه الكلمات، قال سهيل: كان والله بارًّا صغيرًا وكبيرًا…!!

وتوجه سهيل بن عمرو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلم بين يديه، وتغَيَّرت حياته كليَّةً بعد هذا اليوم، وكان -كما يقول الرواة- كثير الصلاة والصوم والصدقة، وخرج مجاهدًا في سبيل الله، بل كان أميرًا على إحدى فرق المسلمين في موقعة اليرموك…

فانظر إلى جميل فعله صلى الله عليه وسلم وكيف كان يحوِّل حياة الناس إلى ما لا يتخيله أحد، وذلك بحسن المعاملة، وسعة الصدر، ونسيان الضغائن والأحقاد.

أما عفوه عن فضالة بن عمير -أحد أشد أعداء أهل مكة- فيحتاج إلى وقفة خاصَّة!

لقد كان فضالة بن عمير من أشدِّ أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، ووصل حقده على الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الدرجة التي أراد معها أن يقتله في وقت الفتح…!! وهذا أمر جدُّ خطير؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم في وسط جيش كبير يبلغ عشرة آلاف من الصحابة رضوان الله عليهم، وإذا قام فضالة بن عمير بهذا التَهَوُّر فلا شك أنه مقتول، وهذا يوضح مدى الحقد الذي ملأ قلبه، فقرر أن يضحي بنفسه ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم…!!

حمل فضالة السيف تحت ملابسه، ومرَّ بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فلما دنا منه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أَفُضَالَةُ؟» قال: نعم، فضالة يا رسول الله… (وكان يدَّعِي الإسلام في ذلك الوقت).

فقال صلى الله عليه وسلم: «مَاذَا كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ؟» قال: لا شيء، كنتُ أذكر الله… فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: «اسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَا فُضَالَةُ»… ثم وضع صلى الله عليه وسلم يده على صدر فضالة فسكن قلبه!!

فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيءٌ أحبُّ إليَّ منه صلى الله عليه وسلم.

كان هذا هو تعامله صلى الله عليه وسلم مع رجلٍ لم يكتفِ بالتخطيط لقتله فحسب؛ بل اجتهد في تطبيق ما خَطَّطَ، وحمل السيف واقترب، لولا أن حفظ الله عز وجل رسوله…

ونختم هذا المطلب بموقف لا يقلُّ عظمة عما سبق، وهو موقفه صلى الله عليه وسلم مع هند بنت عتبة!

لقد كانت هند بنت عتبة من النساء اللاتي حاربن الإسلام طويلاً، ولسنواتٍ كثيرة، ولها ذكريات مؤلمة جدًا في أذهان المسلمين، بل وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصيًا…

وهند بنت عتبة هي زوجة أبي سفيان -رضي الله عنه-، وابنة عتبة بن ربيعة القائد القرشي المشهور، وكانت من أشدِّ الناس حقدًا على المسلمين، وبدأ هذا الحقد من أول أيام الإسلام، ولكنه زاد بشدة وتضاعف بعد يوم بدر؛ بعد أن قُتل في ذلك اليوم أبوها عتبة بن ربيعة، وعمها شيبة بن ربيعة، وابنها حنظلة بن أبي سفيان، وأخوها الوليد بن عتبة… فهؤلاء أربعة من أقرب الأقربين إليها، وهم جميعًا من سادة قريش؛ فأورث ذلك في قلبها كراهية لا يماثلها فيها أحد، وظلت على هذا العداء حتى فتح مكة، وكانت من اللائي خرجن مع جيش الكفار في موقعة أحد، تُحمَّس الجيش القرشيَّ لقتال المسلمين، ولما فرَّ الجيش من أمام المسلمين في أول المعركة كانت تقذف في وجوههم التراب وتدفعهم دفعًا لحرب المسلمين، ولم تفرَّ كما فرَّ الرجال…!!

ثم إنه بعد انتصار أهل مكة على المسلمين في نهايات موقعة أحد قامت بفعل شنيع، وهو التمثيل بجثث المسلمين، فكانت تُقَطِّع الآذانَ والأنوفَ، حتى وصلت إلى حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- عمِّ الرسول صلى الله عليه وسلم فبقرت بطنه، وأخرجت كبده، وفي حقد شديد لاكت منه قطعة، فما استساغتها، فلفظتها !!

وقد أثَّر هذا الموقف بشدة في رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك في قلبه جرحًا عميقًا… يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة، وقد مُثِّلَ به، فلم يَرَ منظرًا كان أوجع لقلبه منه، فقال: «رحمك الله أي عم؛ فلقد كنت وصولاً للرحم، فعولاً للخيرات»…

فتخيل مدى الغضب الذي في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ناحية هند.

ثم إنها خرجت مع المشركين في غزوة الأحزاب، بل استمرَّت في حربها ضد الإسلام حتى اللحظات الأخيرة قُبَيْلَ فتح مكة، حتى إنها رفضت ما طلبه زوجها من أهل مكة أن يدخلوا إلى بُيُوتهم؛ طلبًا لأمان الرسول صلى الله عليه وسلم، بل دَعَت أهل مكة لقتل زوجها أبي سفيان عندما أَصَرَّ على الخضوع للرسول صلى الله عليه وسلم، ودفعتهم دفعا إلى القتال !

إنه تاريخ طويل وشرس لهذه المرأة مع المسلمين.

وبعد هذه الرحلة الطويلة للصدِّ عن سبيل الله، فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكَّة، وأقبل أهلُها من كلِّ مكان يبايعون على الإسلام… وكما جاء الناس جاءت هند بنت عتبة، وهي منتقبة لا يعرفها صلى الله عليه وسلم تريد أن تبايع كما يبايع الناس!!

إنَّ أيَّ مُطَّلِعٍ على الأمور لن يفترض في قدوم هند بنت عتبة للبيعة إلا محاولة منها للهروب من حكم بالقتل هو لا محالة صادر!! ولكن الموقف كان شديد البُعد عن توقعات الناس! فماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

لقد بدأت النساء تبايع، وقال صلى الله عليه وسلم لهن: «بَايِعْنَنِي عَلَى أَلاَّ تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا». فقالت هند وهي منتقبة، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرفها: والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال… أي أن هناك تفصيلات كثيرة للنساء، والرجال قد بايعوا بيعة واحدة… لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إلى اعتراضها، وأكمل: «وَلا تَسْرِقْنَ»… فوقفت هند وقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني، ويكفي بَنِيَّ، فهل عليَّ من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه؟! فقال صلى الله عليه وسلم: «خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ». ثم انتبه صلى الله عليه وسلم إلى أن هذه التي تتكلم هي هند بنت عتبة زوج أبي سفيان، فقال صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّكَ لَهُنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ؟!»… قالت: نعم… هند بنت عتبة، فاعف عمَّا سلف، عفا الله عنك!

إنها لحظة فاصلة في حياة هند بنت عتبة!

تُرى ماذا سيفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يتذكر تاريخها الطويل، وعندما يتذكر حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه-، وما حدث له على يدها…؟

لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كعادته وطبيعته يعفو ويصفح، فلم يُعَلِّقْ ولا بكلمة واحدة على كل ذكرياته المحزنة، بل تنازل عن كل الحقوق، وقَبِل إسلامها ببساطة، وأكمل البيعة مع النساء وكأنه لم يتأثر أبدًا!!

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَلا تَزْنِينَ»… واستمرت هند في اعتراضاتها، فقالت: يا رسول الله، وهل تزني الحرة…؟! فلم يتوقف الرسول صلى الله عليه وسلم، بل أكمل: «وَلا تَقْتُلْنَ أَوْلادَكُنَّ»… فقالت هند: قد ربيناهم صغارًا، وقتلتهم كبارًا، هل تركت لنا ولدًا إلا قتلته يوم بدر؟ أنت قتلت آباءهم يوم بدر، وتوصينا الآن بأولادهم!!

فلم ينفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل لها: ولماذا قاتلناهم في بدر؟! أفلم يكن ذلك لأن المشركين -ومنهم أبوك وعمك وأخوك وابنك- حاربونا ليل نهار ليفتنونا عن ديننا، وقهرونا وعذبونا وصادروا ديارنا وأموالنا…؟ لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من ذلك، وإنما كان رد فعله عجيبًا!!

لقد تبَسَّم صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا، وأخذ الموضوع بشيء من البساطة، وقدَّر موقف هند بنت عتبة، ومدى صعوبة الإسلام عليها… ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وَلا تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيِدِيكُنَّ وَأَرْجُلِكُنَّ»… فقالت هند: والله إن إتيان البهتان لقبيح. فقال صلى الله عليه وسلم: «وَلا تَعْصِينَنِي فِي مَعْرُوفٍ»… فقالت هند: والله ما جلسنا هنا وفي أنفسنا أن نعصيك في معروف.

وهكذا بايعت نساء مكة جميعًا، بمن فيهن هند بنت عتبة -رضي الله عنها- هذه البيعة المباركة.

وسبحان مقلِّب القلوب! لقد حسن إسلام هند بنت عتبة، وكما كانت تخرج مع جيوش الكفار لتُحَمِّسَهَا لحرب المسلمين، بدأت تخرج مع جيوش المسلمين لتحمِّسَهُمْ لحرب الكفار!! وكان من أشهر مواقفها يوم اليرموك عندما بدأت تشجع المسلمين على القتال في سبيل الله، وعلى خوض غمار المعركة الهائلة ضد مائتي ألف رومي، فكانت من أسباب النصر العظيمة في ذلك اليوم المجيد.

لقد أصبحت هند بنت عتبة -رضي الله عنها- إضافةً قويةً للأمة الإسلامية، وكانت البداية موقفًا بديعًا من الرسول صلى الله عليه وسلم، وما أكثر الأعداءَ الذين تحوَّلُوا إلى أخلص الأصدقاء بموقف منه صلى الله عليه وسلم…!!

المصدر: كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية) للدكتور راغب السرجاني.

[/size][/center]

[CENTER][SIZE=“3”]

المطلب الثالث: إعادة زعماء الأعداء إلى مناصبهم بعد نصر المسلمين!

وهذا –والله- خُلُقٌ عجيب ونادر!!

لقد أَلِفْنا الزعماء المنتصرين يقمعون زعماء أعدائهم بل يقتلونهم، فإذا وصل الأمر إلى عفوٍ عن زعماء الأعداء فإننا نعد ذلك عملاً نبيلاً نادرًا، لكن أن يُعيد القائدُ المنتصرُ زعماءَ أعداءه إلى مناصبهم مرة أخرى فهذا ما لا يخطر لأحدٍ على بال! وعند النظر إلى سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم فإننا نجد أن هذا أمر مشاهَدٌ فيها، بل هو متكرر إلى الدرجة التي يُعد فيها أصلاً من الأصول المتَّبَعة في التعامل مع زعماء الأعداء!

ولعل مثالاً واحدًا مبهرًا كموقفه مع مالك بن عوف زعيم هوازن يكون كافيًا ومُغْنيًا عن بقية الأمثلة…
لقد كان موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الزعيم الكبير موقفًا أعجب من أن يُستوعَب!!
كان مالك بن عوف زعيمًا خطيرًا من زعماء العرب، وقد استطاع أن يجمع جيشًا رهيبًا من قبائل هوازن وأعوانها من قبائل ثقيف وغيرها، بلغ قوامه خمسة وعشرين ألف مقاتل، وهو أكبر الجيوش العربية مطلقًا، وحفَّزهم تحفيزًا كبيرًا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم لدرجة أنهم قبلوا أن يأخذوا معهم إلى أرض القتال نساءهم وأولادهم وأنعامهم وأموالهم كحافزٍ لهم على عدم الفرار…!! وهم بذلك يُضَحُّون بكلِّ ما يملكون من أجل قتال المسلمين…

لقد كان الهدف واضحًا في ذهن مالك بن عوف، وهو استئصال المسلمين من جذورهم، وخطَّط لذلك تخطيطًا مُحْكَمًا، والتقي مع المسلمين في صدام مروِّع بالقرب من وادي حنين، وكادت خطته أن تُفْلِح، حتى زُلْزِلَ المسلمون زلزالاً شديدًا، وتعرضوا لأشد أزمة في تاريخهم مطلقًا، وكاد الوجود الإسلامي أن ينتهي، وكاد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُقْتَلَ…!! إنها أزمة الأزمات حقًّا!

ولكن شاء الله تعالى بعد هذا الصدام المروِّع أن ينتصر المسلمون، وأن تَفِرَّ هوازن وثقيف أمام الجيش الإسلامي، وكان مالك بن عوف من الذين فرُّوا، وانضموا إلى أهل ثقيف في حصون الطائف…!!

وفي ذات الوقت الذي فرَّ فيه مالك بن عوف، فكرت قبيلة هوازن -كما مر بنا- في الإسلام، وكان الدافع الرئيسي لها في أول إسلامها هو استرداد النساء والأنعام التي أخذها المسلمون سبيًا وغنيمةً، ووجد مالك بن عوف نفسه وحيدًا شريدًا بعد أن كان قائدًا مُمَكَّنًا… لقد وجدَ نفسه بلا مالٍ ولا ثروةٍ، وكذلك بلا قبيلةٍ ولا عُزْوَةٍ، وفوق ذلك فهو لاجئ عند قبيلة أخرى - قبيلة ثقيف - لا يأمَنُها على نفسه…!!
لقد كان في أشدِّ حالات الانكسار التي من الممكن أن يتعرض لها قائد.
وبينما هو في هذه الحالة المؤسفة المخزية… كان هناك من يفكر في أمره!!
إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم…!!

لقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مالك بن عوف، وإلى أيِّ شيءٍ صار، فقال قومه: إنه في الطائف في حصون منيعة يخشى على نفسه… فقال صلى الله عليه وسلم في روعته المعهودة: «أخبروا مالكًا إن أتاني مسلمًا رددت عليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل» !!

هل يمكن أن يتخيل ذلك أحد…؟!

أهذا هو التعامل المتوَقَّع من قائد منتصر مع زعيم الجيش المعادي له، المهزوم أمامه؟!
إن عموم القادة في العالم ليتلذذون ويستمتعون بمحاكمة ومعاقبة وإذلال زعماء أعدائهم… أما أن يَرْفُقَ الزعيم المنتصر بزعيم معادٍ له، ويرقُّ له، ويبذل له، ويعطيه بسخاء… فهذا ما لا يَسْتَوْعِبُ فهمَه قادةُ العالم!!

ووجد مالك بن عوف في كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنقاذ له من أزمته، فأسرع مُقبلاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن إسلامه بين يديه، فَقَبِلَهُ صلى الله عليه وسلم، دون قيد ولا شرط، ولم يُعَنِّفْهُ، ولم يَلُمْهُ… ولم يستفسر منه عن شيء!!

بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ما هو أعظم من ذلك وأرقى…!! لقد أعاد مالك بن عوف زعيمًا مرة أخرى على هوازن، ولم يقل إن هذا القائد صاحب الإمكانيات الجبارة قد يُجمِّع الناس من جديد لحربي، وقد يُظهر إسلامًا لفترة ثم ينقلب عليَّ وعلى المسلمين… إنه لم يفكِّر بعقلية القائد الذي لا يريد منافِسًا إلى جواره، ولكن فكَّر بعقلية الداعية الذي يريد الخير للناس أجمعين! لقد احترم رسول الله صلى الله عليه وسلم إمكانيات مالك القيادية، وحفظ له سمعته ومكانته وقيمته، ولم يهدرها كما أُهْدِرَتْ آلاف وملايين الطاقات نتيجة عنجهية وتكبُّر بعض القادة… ونسي هذا الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ماضي مالك بن عوف في لحظة واحدة، وعامله معاملة القواد المحترمين، وحوَّل جهده من الإفساد في الأرض إلى إصلاحها…

فأيُّ خيرٍ عادَ على المسلمين… وأيُّ خيرٍ عادَ على هوازن… وأي خير عاد على مالك بن عوف…؟!!
هل نجد -بعد كل هذا- من يتَّهِمُ المسلمين بأنهم لا يعترفون بغيرهم أو يحترمون وجودهم؟ وهل في تاريخ غيرنا ما يشابه - ولو من بعيد - مواقف ذلكم النبي العظيم صلى الله عليه وسلم؟!

إن الحقيقة ظاهرة، وإنّ الأمر واضح، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!

ثم إن هذا لم يكن أمرًا نادرًا في حياته صلى الله عليه وسلم، بل كان كثيرًا ما يُعيد زعماء القبائل إلى مناصبهم مهما كان عداؤهم شرسًا للمسلمين، فقد أعاد عيينة بن حصن إلى زعامة بني فزارة، مع العلم أنه كان من المحاصِرين للمدينة المنورة أيام الأحزاب، وذلك تحت راية غطفان، وأعاد كذلك العباس بن مرداس إلى زعامة بني سليم، وأعاد الأقرع بن حابس إلى زعامة بني تميم، وأعاد جيفر وعبَّاد إلى زعامة عُمَان، وأعاد باذان إلى زعامة اليمن، وأعاد المنذر بن ساوى إلى زعامة البحرين، وغيرهم وغيرهم، وحصر ذلك يصعب لشدة تكراره! فما أعظم هذه من سُنَّة، وما أروعها من طريقة!!

المطلب الرابع: الكرم وسخاء العطاء

اعتدنا كثيرًا أن نرى القواد المنتصرين يأخذون ولا يعطون، بل إن الهدف الرئيسي من الحرب قد يكون حب الأخذ والاستغلال، وهو الهدف البارز الذي رأيناه في الحملات الاستعمارية الشرسة التي عانى منها عالمنا الإسلامي، سواء في القديم أو في الحديث، أما أن نرى القائد المنتصر يحرص على العطاء، بل ويُفَضِّل الناس على نفسه فهذا لا يكون إلا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم!

ولْنستمتع سويًا به صلى الله عليه وسلم وهو يتعامل مع الثروات الهائلة التي جُمعت بعد غزوة حنين، ولْنرى كيف وزَّعها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

لقد كان أول لقاء في ذلك اليوم العجيب مع أبي سفيان زعيم مكة الأول الذي ظل يحكم مكة ست سنوات متصلة من غزوة بدر، إلى فتح مكة، وهو من أصحاب رؤوس الأموال الضخمة في مكة، ومع ذلك فعندما رأى -كما رأى الجميع- الغنائم الهائلة التي لا يحلم بها عربي، قال في لهفة: يا رسول الله، أصبحت أكثر قريش مالاً. فهو يُلَمِّح للرسول بوجود المال الكثير، وكأنه يطلب منه! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم، فلما رأى أبو سفيان أن التلميح غير مجدٍ، قال مُصرِّحًا: أعطني يا رسول الله من هذا المال!

ونحن لا نتعجب من كلام أبي سفيان وتصريحه للرسول بطلبه للمال هكذا تصريحًا، لأن هذه أموال هائلة، وسوف تُوزَّع، فلعله إن لم يُصرِّح وُزِعَت على غيره، وعندها لا ينفع الندم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في يسر وسهولة: «يَا بِلَالُ زِنْ لَأَبِي سُفْيَانَ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنَ الْفِضَّةِ، وَأَعْطُوهُ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ»! فنظر أبو سفيان إلى العطايا وهو لا يصدق نفسه لكثرة الإبل والفضة، فقال دون أن يفكر كثيرًا: ابني يزيد يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في منتهى البساطة: «زِنْ لَهُ يَا بِلَالُ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَأَعْطُوهْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ». فقال أبو سفيان: يا رسول الله، ابني معاوية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «زِنْ لَهُ يَا بِلَالُ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَأَعْطُوهْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ».

ذُهِل أبو سفيان، وقال في صدق: إنك الكريم، فداك أبي وأمي، ولقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت، جزاك الله خيرًا.

ونشعر بالصدق في كلمات أبي سفيان، ما الذي غيَّره؟ وكيف تغير من رجل يشك في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل مؤمن به مادح له؟ وما الذي ثبَّته بعد تردد؟ وما الذي أسعده بعد حزن؟
إنه المال، ولكن ماذا تمثل هذه الأموال إلى جوار هداية إنسان؟ وما هذه الأموال إلى جوار استقرار الدولة الإسلامية؟ وما هذه الأموال إلى جوار تأليف قلوب بني أمية؟ وما هذه الأموال إلى جوار ثبات أهل مكة؟!

نعم إن المال حلو ونضر، ولكنه يتصاغر جدًّا إلى جوار هذه المعاني.
وهذه كانت نظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ويعطي وكأن المال لا ينتهي.
ولم يكن أبو سفيان الآخذ الوحيد في ذلك اليوم…
جاء حكيم بن حزام، وهو أيضا من مسلمي الفتح، ودار بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حوار عجيب!

يقول حكيم بن حزام: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاني مائة من الإبل، ثم سألته، فأعطاني مائة ثانية، ثم سألته، فأعطاني مائة ثالثة!
لقد أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة من الإبل، ثم قال له بعد أن رآه يريد المزيد: «يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ -يعنى بغير شرط ولا إلحاح- بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ، وَتَشَوُّفٍ لَمْ يُبَارَكُ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يِأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى».
وسمع حكيم بن حزام هذا الدرس، وفَقِهَ مرادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسرع برد المائة الثانية، والثالثة، وأخذ المائة الأولى فقط، ثم قال في صدق: يا رسول الله والذي بعثك بالحق، لا أرزأ أحد من بعدك يا رسول الله، حتى أموت.

وسبحان الله! كان حكيم بن حزام صادقًا في قسمه، فما كان يأخذ من أحد شيئًا أبدًا، حتى أنه كان يرفض العطاء الذي يستحقه من أبي بكر، ثم عمر بعد ذلك!
وكما وزَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم على هؤلاء وزَّع على غيرهم، فأعطى سهيل بن عمرو، وأعطى الحارث بن هشام أخا أبي جهل, وأعطى النضير بن الحارث، وأعطى غيرهم من زعماء مكة. ثم تجاوز رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة إلى غيرها، فأعطى عيينة بن حصن زعيم قبيلة بني فزارة مائة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس زعيم بني تميم مائة من الإبل، وكذلك أعطى عباس بن مرداس زعيم قبيلة سُليم خمسين ناقة ثم زاده إِلَى مِائَةٍ.
وإذا كان كل هذا العطاء في كفَّة، فعطاؤه لصفوان بن أمية في كفَّة وحده!!
وموقفه صلى الله عليه وسلم مع صفوان يحتاج إلى وقفة وتحليل.

لقد مرَّ بنا في هذا البحث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد عفا عن صفوان بن أمية -وهو كما ذكرنا من كبار زعماء مكة، وكان من أشد الناس حربًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم- وأعطى له مهلة أربعة شهور للتفكير في أمر الإسلام، وفي أثناء هذه المهلة، وكان صفوان ما زال مشركًا، قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج لملاقاة التجمع الكبير لهوازن في حُنَيْن، واحتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض الدروع للقتال، وكان صفوان من كبار تجار السلاح في مكة ويملك عددًا وفيرًا منها، ومع أنه كان مهزومًا مقهورًا في ذلك الوقت، ومع أنه كان لا يزال على شركه، ومع أن تاريخه شديد السواد مع المسلمين، ومع أن وجود السلاح في يده يُمثِّل خطورة على الجيش المسلم، مع كل هذه الاعتبارات إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب منه هذه الدروع على سبيل الاستعارة! حتى أن صفوان دهش من استعارته للدروع وهو منتصر متمكن، فسأله ليستفسر: أغَصْبٌ يا محمد؟ فقال: «لَا بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ». لقد أخذها منه على سبيل الاستعارة، وبالثمن، ثم هو يضمن إن فُقِدَت أو تلف منها شيء أن يعوضه عنها!! ولم يستغل ضعفه، وقِلَّةَ أعوانه، وإسلام مكة كلها تقريبًا إلا هو! ولم يصادر سلاحه تشككًا في نياته!!
ولابد أن نتساءل: هل في تاريخ الأمم مثل هذه المواقف؟!

وخرج صفوان مع المسلمين إلى حنين ليرعى أسلحته، وانتصر المسلمون انتصارًا مجيدًا، ووزَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم كما رأينا، وأعطى عطاءً نادرًا، وكل هؤلاء الذين أخذوا الأموال الغزيرة كانوا كفارًا منذ أيام، وكانوا جميعًا أصدقاء ومقربين إلى صفوان، ولكنهم أسلموا فعاد عليهم إسلامهم بهذه الثروة الهائلة، ومن بعيد وقف صفوان بن أمية متحسِّرًا، فهو ما يزال من المشركين، وليس له إلا إيجار السلاح… ولكنْ حَدَثَ في لحظةٍ ما أذهل صفوان، وأذهل المشاهدين للموقف والسامعين عنه، وسيظلُّ مذهلاً للناس إلى يوم القيامة!!

لقد نادى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صفوانَ بن أمية، وأعطاه مائة من الإبل، كما أعطى زعماء مكة المسلمين!!
أيتوقع إنسان - أيا كان كرمه أو سخاؤه - أن يحدث منه مثل هذا…؟!
إن صفوان ما زال مشركًا لا يعترف بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم !!
ولم تكن ذلك نهاية الموقف!
لقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صفوان ما زال واقفًا، ينظر إلى شِعْبٍ من شِعاب حُنين، قد مُلِئ إبلاً وشياه، وقد بَدَتْ عليه علامات الانبهار والتعجب من كثرة الأنعام، فقال له صلى الله عليه وسلم في رِقَّة: «أَبَا وَهْبٍ، يُعْجِبُكَ هَذَا الشِّعْب؟»… قال صفوان في صراحة شديدة: نَعَمْ.
إنه لا يستطيع أن يترفع وينكر… إن المنظر مبهر حقًّا!!

قال الرسول صلى الله عليه وسلم في بساطة وكأنه يتنازل عن جمل أو جملين: «هُوَ لَكَ وَمَا فِيهِ» !! وفي رواية مسلم أنه أعطاه مائَةً مِنَ النَّعَمِ ثُمَّ مِائَةً ثُمَّ مِائَةً !!
أذهلت المفاجأة صفوان، ووضحت أمام عينيه الحقيقة التي ظلت غائبة عنه سنين طويلة، ولم يجد نفسه إلا قائلا: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله!!
وأسلم صفوان في مكانه!!
يقول صفوان بن أمية: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاني، وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني، حتى صار أحبَّ الناس إليّ !!
أيُّ خير أصاب صفوان…!! وأيُّ خير تحقق لقبيلة بني جُمَح عندما أسلم زعيمها…!! وأيُّ خير تحقق لمكة…!! بل وأيُّ خير تحقق للمسلمين، وقد أضيفت إليهم قوة الزعيم المكي المشهور صفوان بن أمية، والذي حسن إسلامه بعد ذلك، وصار من المجاهدين في سبيل الله…؟!
إن كل هذا الخير قد تحقق بوادٍ من الإبل والشياه!

وما هي قيمة هذه الإبل والشياه؟!

إن الدنيا بكاملها -وليست الإبل والشياه فقط- تفنى وتزول، ولكن الذي لا يزول هو نعيم الجنة، وكم من البشر سيُخلَّد في الجنة؛ لأنه أُعْطي ذات يوم مجموعة من الإبل والشياه!
أليس هذا فهمًا راقيًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة وحقيقة الغنائم وحقيقة البشر؟
أليس هذا تقديرًا صائبًا من الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم في هذه المقارنة السريعة التي عقدها؟!

الأغنام في مقابل الإسلام…!! والدنيا في مقابل الآخرة!

لقد وجد الرسول صلى الله عليه وسلم أن الأغنام -مهما كثرت- ثمن زهيد جدًا للإسلام، فهانت عليه، بل هانت عليه الدنيا بكاملها، فأعطاها دون تردد، فالدنيا عنده لا تعدل جناح بعوضة، والدنيا عنده قطرة في يَمٍّ واسع، والدنيا عنده أهون من جَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، ولم يكن هذا كلاما نظريًا فلسفيًا، وإنما كان حقيقة رآها كل المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بعيونهم، كان واقعًا في حياته، وحياة الصحابة -رضي الله عنهم-، وحياة من عاملهم من المسلمين وغير المسلمين…
ولم يتبق في يده شيء لنفسه صلى الله عليه وسلم !!

لم يتبق ما يُعَوِّضُ به فقر السنين، وانقضاء العمر، وقد بلغ الستين من عمره بل تجاوزها!
لم يحتفظ لنفسه بشيء، ورأى الناس منه ما جعل عقولهم تطيش، وأفئدتهم تضطرب، فانطلق الأعرابُ يزدحمون عليه صلى الله عليه وسلم يطلبون المال والأنعام لأنفسهم قبل أن تنفد، حتى اضطروه صلى الله عليه وسلم -وهو الزعيم المنتصر، والقائد الأعلى- أن يلجأ إلى شجرة، وانتزع الأعراب رداءه، فقال في أدبٍ ورفقٍ، ولينٍ يليق به كنبي، ويجدر به كمُعَلِّم: «أَيُّهَا النَّاسُ، رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ عِنْدِي عَدَدَ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَّمْتُهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونِي بَخِيلاً، وَلا جَبَانًا، وَلا كَذَّابًا».
وصدق صلى الله عليه وسلم… فما كان بخيلاً، ولا جبانًا، ولا كذابًا…

[/size][/center]

[CENTER][SIZE=“3”]

المطلب الخامس: التواضع عند النصر

ولعل هذه من أصعب الأمور تحقيقًا في مثل هذا المقام!

إن النصر -تلقائيًا- يورِث في النفس زهوًا وفخارًا، وقد يقود -وهذا كثير- إلى غرور وتكبُّر، وراجعوا صور الزعماء وهم يدخلون المدن والدول المهزومة، أو وهم يُلْقون على مسامع الناس خطب النصر، أو وهم يقابلون وفدًا أو زعيمًا من الدولة التي كُسِرت وهُزِمت… إن من قواعد البروتوكول هنا أن يشمخ الزعيم المنتصر بأنفه، وأن يرفع رأسه، وأن يجلس والناس وقوفٌ حوله، وأن يُسلِّم عليه الناس فلا يلتفت إليهم!!

هذا هو بروتوكول المنتصرين من عامة القادة في العالم…

لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شيئًا آخر!!

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن النصر الذي حققه ليس من عنده، ولا من عند أحد من البشر، بل من عند الله تعالى … يقول تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126] ويقول تعال: {إنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160] والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا، ثم إن الله الذي وهب النصر قادرٌ على نزعه، وإعطائه لقوم آخرين، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا التكبر والعُجْب؟! من هذا المنطلق كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعًا في كل شئون حياته، بل إنه كان يُظهر التواضع بصورة أكبر عند مواطن النصر، لكي يُرَسِّخ عند المسلمين والعالمين أن الناصر هو الله تعالى ، وهذا المنهج الراقي أفرز لنا مواقف أعجب من الخيال!!

لننظر إلى موقف من مواقفه صلى الله عليه وسلم مع أحد رجال مكة المنهزمين بعد موقعة بدر الكبرى. لقد كانت هذه الموقعة بين ثلاثمائة مسلم يزيدون قليلاً، وألف من كفار مكة، وتحقق النصر المؤزَّر للمسلمين، وأي قائد -غير رسول الله صلى الله عليه وسلم- سيعيش أكثر أيامه فخرًا وتيهًا لانتصاره بالقليل على الكثير، ولكن موقفنا لم يكن على هذه الصورة… لقد جاء عمير بن وهب، وهو من كبار زعماء مكة، بزعم أنه يريد أن يفك أسر ابنه وهب، والذي أُسِر في بدر… كان هذا هو الهدف المعلن من الزيارة، بينما الهدف الحقيقي كان قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فقد كانت مؤامرة قرشية خبيثة بين هذا الرجل وصفوان بن أمية. ومع أن الرجل غير مأمون، ومع أنه جاء في موقف ظاهره ذلَّة، وهو طلب فكِّ الأسير، ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علم عن طريق الوحي بالمؤامرة، مع كل هذه الأمور إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستغل الموقف ليذلَّ عميرًا أو يُحقِّر من شأنه، ولم يستغل الموقف ليظهر له ولأهل مكة عظمة المنتصرين، بل كان على عكس ذلك تمامًا…

لقد شَحَذَ عمير سيفه ونقعه في السُمَّ، ثم انطلق إلى المدينة، فبينما هو على باب المسجد ينيخ راحلته رآه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ‏:‏ عدو الله عمير ما جاء إلا لشر‏.‏ ثم دخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا نبي الله، هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحًا سيفه، قال‏:‏ ‏‏«‏فَأَدْخِلْهُ عَلَيّ‏»‏، فأقبل عمر إلى عمير فلَبَّبَهُ بحَمَالة سيفه، وقال لرجال من الأنصار‏:‏ ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به.

إن هذا الذي فعله عمر هو أقل القليل في أمور الحيطة والحذر، وإلا فلا يسمح لمثل هذا أن يأتي ليدخل هكذا على قائد الدولة، ودون تفتيش أو رقابة. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له موقف آخر!

لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «‏أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، اُدْنُ يَا عُمَيْرُ»‏، فدنا وقال‏:‏ أنْعِمُوا صباحًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏«‏قَدْ أَكْرَمَنَا اللّهُ بِتَحِيَّةِ خَيْرٍ مِنْ تَحِيّتِك يَا عُمَيْرُ بِالسّلَامِ تَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ‏»‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏‏«‏ما جاء بك يا عمير‏؟»‏ قال‏:‏ جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا فيه‏. قال‏:‏ «‏فَمَا بَالُ السّيْفِ فِي عُنُقِك‏؟‏‏»‏ قال‏:‏قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئًا ‏؟‏ قال‏:‏ ‏‏«‏اُصْدُقْنِي، مَا الّذِي جِئْت لَهُ‏؟»‏ قال‏:‏ ما جئت إلا لذلك‏.‏ قال‏:‏ ‏‏«‏بَلْ قَعَدْت أَنْتَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ، فَذَكَرْتُمَا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمّ قُلْت: لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيّ وَعِيَالٌ عِنْدِي لَخَرَجْت حَتَّى أَقْتُلَ مُحَمّدًا، فَتَحَمّلَ لَك صَفْوَانُ بِدَيْنِك وَعِيَالِك، عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي لَهُ وَاَللّهُ حَائِلٌ بَيْنَك وَبَيْنَ ذَلِكَ»‏‏.‏ قال عمير‏:‏ أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم تشهد شهادة الحق‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏«‏فَقّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ. وَأَقْرِئُوهُ الْقُرْآنَ، وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ، فَفَعَلُوا» ‏‏.‏

ما أروع هذا التواضع !

إنه يطلب من عُمر أن يطلقه حرًا، ثم يطلب من عمير أن يقترب منه مع علمه بنواياه الخطيرة، ثم يعلن له أن تحية الإسلام هي السلام، فالإسلام دين سلام للعالمين، ولا يذكِّره بحرب بدر، ثم يحقق معه تحقيقًا هادئًا غير متعنِّت يستفسر فيه عن سبب الزيارة، ثم يكشف له بهدوء عن نواياه الدفينة، دون انفعال ولا تهور ولا غضب…

هل يتعامل قائد في العالم مع رجل يدبِّر لاغتياله بهذه الصورة؟!

ثم إن عميرًا أسلم بعد أن أطلعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمور لا تُعرَف إلا بوحي، فقَبِل منه الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك مباشرة دون تشدد، ولم يتهمه بالتحايل حتى ينجو من العقاب، بل قال للصحابة: فقِّهوا “أخاكم” في الدين، فقد جعله في لحظة واحدة أخًا للمسلمين، ثمَّ تفضَّل أكثر وأكثر وأطلق له أسيره بغير فداء، مع أن الأسير لم يُسْلِم بعد، ومع أن الأمر كله يحتمل أن يكون -في عُرْف عامة القواد- مجرد تمثيلية لإطلاق الأسير، ثم لن يلبث عمير عند عودته إلى مكة أن يترك الإسلام، ويعود إلى دينه القديم… إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفترض مثل هذه الافتراضات، ولكنه تعامل مع عمير بمنتهى التواضع وسلامة الصدر، مما قد لا يستوعبه قائد من قواد زماننا أو أي زمان!

وما قلناه عن لقاء عمير -رضي الله عنه- يُقال عن لقاءات كثيرة، غير أنه لا ينبغي أن يفوتنا ونحن نتحدث عن تواضعه صلى الله عليه وسلم بعد النصر أن نتحدث عن دخوله مكة المكرمة فاتحًا بعد هجرةٍ وإخراجٍ منها اقترب من ثماني سنوات كاملة! إن النفس التي تتواضع وهي تنتصر على قوم ظلموا وبطشوا وتكبَّروا وتجبَّروا لنفس طيبة طاهرة حقًّا!!

لقد كان دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دخولاً عجيبًا، وبكل تأكيد فإنه ليس له مثيل في الدنيا!

لقد كان باستطاعته أن يبيد مكة بكلمة واحدة، وكان باستطاعته أن يشفي صدور المؤمنين بإهلاك الكافرين، وكان باستطاعته أن يسخر منهم، ويستهزئ بهم، ويُذكِّرهم بأذيتهم له، واضطهادهم لأصحابه…

كان باستطاعته أن يفعل الكثير، ولكنه ما فعل شيئًا مما يتوقعه عامة الناس…

يقول أنس -رضي الله عنه-: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وذقنه على رحله متخشعًا.

إنه لا يتواضع في كلماته فقط، بل في شكله الخارجي، ومظهره الذي يراه الجميع من المسلمين والكافرين، ثم كانت كلماته الرقيقة -والتي مرت بنا في هذا البحث- حيث أطلق الجميع بقوله البديع: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطّلَقَاءُ».

أن الموقف لا يحتاج لتعليق، وإن الصورة لتُغْني عن الكلام!

إن هذا هو رسولنا صلى الله عليه وسلم، فأين مثيله في العالمين؟!

المطلب السادس: وفاءه صلى الله عليه وسلم بالوعد

الكثير من المنتصرين تنسيهم نشوة النصر ما قطعوه على أنفسهم من عهود، وما أطلقوه من وعود، ولو كانت قبيل النصر بقليل! لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن من هذا النوع…
روى ابن عباس -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال يَوْمَ الطَّائِفِ: «مَنْ خَرَجَ إِلَيْنَا مِنَ الْعَبِيدِ فَهُوَ حُرٌّ»، فَخَرَجَ عَبِيدٌ مِنَ الْعَبِيدِ فِيهِمْ أبو بكرة، فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. إن ضعف العبيد لم يكن دافعًا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدًا لخُلْف الوعد، بل إنه اعتبر كلماته هذه ميثاق شرف لازم التحقيق، حتى إن لم تكن هناك جهة دنيوية تتولى الحساب والمساءلة. ثم إن هذا الموقف يعكس لنا منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية العبيد والأسرى… إنه لا يريدهم للسخرة أو لاستعمالهم فيما يعود على المسلمين بالنفع، إنما يريد لهم الحرية والانطلاق من القيود، ورفض الذلِّ والضيم، وهذا ما يبغيه الإسلام لكل إنسان مسلمًا كان أو غير مسلم.

ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتزم بما قطعه على نفسه من عهود فقط، بل كان ملتزمًا كذلك بما تعارف الناس عليه من حقوق، حتى لو كان هذا التعارف من أيام الجاهلية! وفي موقفه مع عثمان بن طلحة -رضي الله عنه- دليل على هذا المعنى.

لقد تعارفت قريش على أن مفتاح الكعبة لا يكون إلا بيد قبيلة بني عبد الدار، وذلك منذ أن أعطى قُصَيٌ -أحد أجداد رسول الله صلى الله عليه وسلم- هذا المفتاح إلى ابنه عبد الدار، وقال له: لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له، ومنذ ذلك اليوم والجميع يتعارف على ذلك، ومع أن هذا القانون كان من أيام الجاهلية إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُقِرُّه. وعلى ذلك فقد انتهى هذا المفتاح إلى عثمان بن طلحة العبدري بصفته سيد بني عبد الدار، وفي يوم من أيام مكة قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة – وكان عثمان آنذاك مشركًا- أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل الكعبة، فحدث موقف لا تألفه قريش! ونترك عثمان بن طلحة يصوِّر لنا هذا الموقف.

يقول عثمان بن طلحة: كنا نفتحُ الكعبةَ في الجاهلية يومَ الاثنين، والخميس، فأقبلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومًا يُريد أن يدخُلَ الكعبة مع الناس، فأغلظتُ له، ونِلتُ منه، فحلمَ عنِّي، ثم قال: «يَا عُثْمَانُ لَعَلّك سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ يَوْمًا بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْت»، فَقُلْتُ: لَقَدْ هَلَكَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَئِذٍ وَذَلّتْ فَقَالَ: «بَلْ عَمَرَتْ وَعَزّتْ يَوْمَئِذٍ» وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ فَوَقَعَتْ كَلِمَتُهُ مِنّي مَوْقِعًا ظَنَنْتُ يَوْمَئِذٍ أَنّ الْأَمْرَ سَيَصِيرُ إلَى مَا قَالَ !

ومرَّت الأيام، وأسلم عثمان بن طلحة -رضي الله عنه- قبيل فتح مكة بشهور قليلة، ثم كان فتح مكة، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل الكعبة، فدعا عثمان بنَ طلحة -رضي الله عنه-، فأخذ منه مفتاحَ الكعبة، فأمر بها فَفُتحت، فدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى بداخلها، وأزال ما في باطنها من صور، ثم خرج وجلس في المسجد، فقام إليه علي -رضي الله عنه-، ومفتاحُ الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله؛ اجمَعْ لنا الحِجَابَة مع السِّقَاية صلَّى الله عليك.

إن عليًا -رضي الله عنه- في هذا المقام يرى أن القوة أصبحت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهاشمي، فتخيَّل أنه صلى الله عليه وسلم يقبل بنقل شرف حجابة الكعبة مع شرف السقاية إلى بني هاشم، فيكون شرفًا لهم أبد الدهر، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في وفاء نادر: «أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَة؟»، فدُعِيَ له، فقال له: «هَاكَ مِفْتَاحَكَ يا عُثْمَانُ، اليَوْمُ يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاء». ثم قال له: «خُذُوها خَالِدَةً تَالِدَةً لا يَنْزِعُها مِنْكُم إلاَّ ظَالِمٌ، يا عُثمانُ؛ إنَّ اللهَ اسْتَأْمَنَكُم عَلَى بَيْتهِ، فَكُلُوا مِمَّا يَصِلُ إلَيْكُم مِنْ هذا البَيْت بالمَعْرُوف»، قال: فلما ولَّيتُ، ناداني، فرجَعْتُ إليه فقال: «أَلَمْ يَكُنِ الَّذي قُلْتُ لَكَ؟»، قال: فذكرتُ قولَه لي بمكة قبل الهجرة: «لَعَلّك سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ يَوْمًا بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْت»، فقلتُ: بلَى أَشْهَدُ أنَّكَ رَسُولُ الله.

إنه لموقف نادر حقًّا أن يلتزم قائد منتصر بأعرافٍ صيغت في زمان قديم، ليس له هو دخل فيها، ولم يأخذ على نفسه عهدًا بتطبيقها، ولكنه لا يستغل قوته وانتصاره لمصلحة شخصية، أو لتنفيذ رغبة عائلية، بل يرعى حقوق الناس بصرف النظر عن ضعفهم أو ظروفهم!

إن هذه - حقيقةً - لأبهى صور الوفاء!

[/size][/center]