أخلاق النبي مع الرسل

[CENTER][SIZE=“3”]

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتبر أن تقدير رسل الزعماء هو تقدير لملوكهم ودولهم وقبائلهم، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْرِم هؤلاء الرسل بصورة قد يستغربها كثير من الناس، خاصَّة وأنهم أحيانًا كانوا يحملون رسائل غير مهذَّبة، ولكنه كان لا يُحمِّلهم وزر هذه الرسائل، فما هم إلا حاملين لها، وحتى إن ظهر من بعضهم أخطاء فإنه كان يعتبر سفارتهم واقية لهم من العقاب، فلا يتعرض لهم بشيء.

وسوف نتناول هذا الموضوع – بإذن الله – من خلال المطالب الآتية:

المطلب الأول: حسن الضيافة وتحميل الهدايا

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرم كل الوفود التي تأتي إلى المدينة المنورة بصرف النظر عن الموقف السياسي والديني الذي يُتَوَقَّع من هذه الوفود، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم اهتمام بالوفود، استقبالاً وضيافةً وتجمُّلاً وجوائز… فكان يُجري عليهم الضيافة، ويُحسن استقبالهم، ويسائلهم ويتردد عليهم، ويلبس أحسن الثياب لاستقبالهم.

وكان قد خصص بعض الديار لاستقبالهم كما جاء في استقباله لوفد سلامان ؛ حيث قال لثوبان: «أنزل هؤلاء الوفد حيث ينزل الوفد»، فوضح أن هناك دارًا مخصصة لهذا الأمر، وورد أن هذه الدار كانت لرملة بنت الحارث النجارية رضي الله عنه كما حدث مع وفود كلاب ومحارب وعذرة وعبد قيس وتغلب وغسان وغيرهم . وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يُحَمِّلَ هذه الوفود بالهدايا والجوائز، وكثيرًا ما تكون هذه الجوائز من الفضة.

ولقد بلغ من اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوفود التي تأتي المدينة المنورة على اختلاف أديانها ومعتقداتها أن أوصى بهم وهو في اللحظات الأخيرة من حياته، فكان مما قاله صلى الله عليه وسلم في آخر وصاياه: «وَأَجِيزُوا‏الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ‏ ‏أُجِيزُهُمْ»، و"أجيزوهم": بمعنى أعطُوهُم، والجائزة هي العَطِيَّة.

المطلب الثاني: عدم تحميل رسل الأعداء وزر ما في الرسالة

إن من أعجب المواقف في هذا السياق ما حدث منه صلى الله عليه وسلم مع رسل كسرى عندما جاءوه في المدينة المنورة… وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل رسالة إلى كسرى فارس يدعوه فيها إلى الإسلام، وغضب كسرى فارس من هذه الرسالة، وشَقَّها، وأرسل إلى عامله على اليمن ليأتي له برسول الله صلى الله عليه وسلم!! ويحسن بنا لنَفْقَهَ طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الرسل - في هذه الظروف الصعبة - أن نعرض للرواية من أولها من يزيد بن حبيب قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة رضي الله عنه إلى كسرى بن هرمز ملك فارس، وكتب معه: «بسم الله الرحمن الرحيم… من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبدُه ورسوله، وأدعوك بدعاء الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر مَنْ كان حيًا، ويحقَّ القول على الكافرين، فأَسْلِمْ تَسْلَمْ، فإن أَبَيْتَ فإنَّ إثم المجوس عليك». قال: فلما قرأه شقَّه وقال: يكتب إليَّ هذا وهو عبدي؟!قال: ثم كتب كسرى إلى باذان، وهو على اليمن، أن ابعثْ إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جَلْدَيْن، فليأتياني به، فبعث باذان قهرمانه، وهو (بابويه) وكان كاتبًا حاسبًا بكتاب فارس، وبعث معه رجلاً من الفرس يقال له: خرخسرة، وكتب معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، وقال لبابويه: ائْتِ بلد هذا الرجل، وكلِّمه، وَأْتِنِي بخبره، فخرجا حتى قدما الطائف، فوجدا رجالاً من قريش بنجب من أرض الطائف فسألاهم عنه، فقالوا: هو بالمدينة، واستبشروا بهما، وفرحوا، وقال بعضهم لبعض: أبشروا، فقد نصب له كسرى ملك الملوك… كُفِيتُمُ الرجل!

فخرجا حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه بابويه؛ فقال: إنَّ شاهنشاه ملك الملوك كسرى قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك ينفعك، ويَكْفِهِ عنك، وإن أبيت فهو من قد علمت؛ فهو مُهْلِكُك، ومُهْلِكُ قومك، ومخرِّب بلادك، ودخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما، فكره صلى الله عليه وسلم النظر إليهما، ثم أقبل عليهما، فقال: «ويلكما، من أمركما بهذا؟»… قالا: أمرنا بهذا ربنا - يعنيان كسرى - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكن ربي قد أمرني بإعفاء لحيتي وقَصِّ شاربي»، ثم قال لهما: «ارجعا حتى تأتياني غدًا».

قال: وأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ من السماء أن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله، في شهر كذا وكذا، في ليلة كذا وكذا، قال: فدعاهما فأخبرهما، فقالا: هل تدري ما تقول؟! إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا، أفنكتب عنك بهذا، ونخبر الملك؟ قال: «نعم، أخبراه ذلك عني»، وقولا له: «إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ مُلْكُ كسرى، وينتهي إلى منتهى الخف والحافر، وقولا له: إنك إن أسلمت أعطيتُك ما تحت يديك، ومَلَّكتُك على قومك من الأبناء».

ثم أعطى خرخسرة منطقة فيها ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك؛ فخرجا من عنده حتى قدما على باذان، فأخبراه الخبر، فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبيًّا كما يقول، وليكونَنَّ ما قد قال، فلَئِنْ كان هذا حقًّا فهو نبي مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا، فلم ينشب باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه: “أما بعد فإني قد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا غضبًا لفارس؛ لما كان استحلَّ من قتل أشرافهم وتجميرهم في ثغورهم، فإذا جاءك كتابي هذا فَخُذْ لِيَ الطاعة ممن قبلك، وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب فيه إليك فلا تُهِجْهُ حتى يأتيك أمري فيه”.

فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذان قال: إن هذا الرجل لرسول. فأَسْلَمَ، وأسلمت الأبناء معه من فارس من كان منهم باليمن، وقال: وقد قال بابويه لباذان: ما كَلَّمْتُ رجلاً قَطُّ أَهْيَبَ عندي منه، فقال له باذان: هل معه شُرُط (شرطة)؟ قال: لا.

في هذا الموقف العظيم نجد من أخلاق النبوة في تعامله مع رسل الأعداء ما نعجز عن وصفه أو بيانه!!

فهذان رسولا كسرى قد جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقر داره في المدينة المنورة ليأخذاه إلى كسرى فارس، وكان كلامهما في منتهى الصلف والغرور، تمامًا كزعيمهما كسرى، ومع ذلك فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هدوئه وأدبه ورقة طباعه، بل أخبرهما بمنتهى الموضوعية والثقة عن خبر السماء الذي أتاه، ثم أخبرهما أن يُبَلِّغَا باذان عامل اليمن من قِبَلِ كسرى أنه إن أسلم أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تحت يده، ثم زاد فوق ذلك الاحترام احترامًا أعظم وأكرم، فأعطى أحد الرسولين هدية قيمة عبارة عن مِنْطَقَة (حزامٍ) فيها ذهب وفضة!!

إن هذا الأسلوب الدبلوماسي الراقي في التعامل مع المخالفين في العقيدة والدين، والمخالفين في الموقف السياسي، بل والمخالفين في السمات الأخلاقية والطباع الإنسانية لأَمْرٌ يدعو حقيقة للتوقف والتدبر والانتباه… فليس هناك قانون يُرْغِم قائدًا أن يتعامل بهذا اللطف مع رجل يهدده ويتوعده، ولكنها الرقابة الداخلية في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي تضبط كل انفعالاته بضوابط الشرع وأوامر الله تعالى… وليس هذا النُّبْل إلا في شريعة الإسلام… وشَتَّان بين من يراقب ربه في كل حركة أو سَكْنَةٍ في حياته، ومن يعيش تابعًا لهواه، طائعًا لشهواته… إنه الفرق بين المشرق والمغرب!

المطلب الثالث: هدوء الأعصاب، والسيطرة على النفس

أحيانًا يتعمد بعض الرسل استفزاز الزعماء الذين يحملون إليهم الرسائل، فيقع الزعيم في خطأ قد يُحمِّل قومه وبلده خسائر كبيرة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن من هذا النوع الذي يُستفَز، أو يثور، أو يغضب! لقد كان آية من آيات الهدوء والرفق والسكينة!

ولنقف وقفة مع استقباله لعروة بن مسعود الثقفي – وكان آنذاك مشركًا – عندما جاءه مرسلاً من قريش قبيل صلح الحديبية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما هو معلوم – قد جاء للعمرة، ولم يجئ لقتال، ولا يريده، وقد صرَّح بهذا قبل ذلك لبديل بن ورقاء الخزاعي، والذي نقل هذا الكلام بدوره إلى قريش، وعرفه عروة بن مسعود، وجاء كرسول يحمل رسالة تهديدية من قريش تُنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرب لا طاقة له بها!

ولنترك المسور بن مخرمة رضي الله عنه يصف لنا هذا الموقف الفريد…

يقول المسور: فَأَتَاهُ (أي عروة بن مسعود الثقفي) فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ (أي أنه لم يجئ لقتال)، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ؟ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ؟ وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى فَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى وُجُوهًا وَإِنِّي لَأَرَى أَوْبَاشًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ .

وانظر إلى الاستفزاز!

إنه يتجاهل تمامًا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه لم يأت لقتال، ويتهمه بأنه قد جاء لاستئصال قومه، ويُقلِّل جدًا من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم ويستقبح فعله، ويقول أنه قد أتى عملاً منكرًا لم يفعله أحد من العرب قبله، ثم هو يُهدِّد ويُخوِّف، بأن قريشًا لا طاقة لأحد بها، بل إنه في سبيل ذلك لا يتردد أن يسبَّ الصحابة الكرام، ويصفهم بالأوباش، ويتهمهم بالجبن وسرعة الفرار!

ماذا يفعل أيُّ زعيم في العالم لو كان في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

يكفي أن ندرك أن هذا الكلام قد استفز أبا بكر الصديق رضي الله عنه – وهو المشهور بالرفق واللين والسماحة والأدب – حتى خرج عن أعصابه، وسبَّ عروة سبَّة منكرة، ما أحسب أنه –رضي الله عنه- كررها في حياته قط!

ومع ذلك ظلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على هدوء أعصابه، فلم ينفعل، وكأنه لم يسمع سخافات عروة!!

ولكن عروة لم ييأس، بل استمر في الحديث، محاولاً الاستفزاز بطريقة جديدة! يقول المسور: وَجَعَلَ (أي عروة) يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، والمغيرة بن شعبة قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ وَقَالَ لَهُ أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . لقد كان عروة مُصِرًّا على استفزاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكرَّر الإمساك بلحيته ليستثيره، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج عن هدوئه، بل إن الذي كان يخرج عن أعصابه ويضرب على يد عروة ليمنعه عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه! وهذا عجيب! لأن عروة بن مسعود الثقفي هو عم المغيرة بن شعبة الثقفي وسيد قومه، ولو كان هناك أحدٌ يصبر على أفعال عروة فإنه يجب أن يكون المغيرة لقرابته منه، بل لعل الصحابة رضي الله عنه صبروا على هذا الاستفزاز احترامًا للمغيرة رضي الله عنه، أما المغيرة صلى الله عليه وسلم فقد وجد أن هذا تطاول غير مقبول من عمه، ولذلك كان يهوي بنعل السيف على يد عروة كلما أمسك بلحية رسول الله صلى الله عليه وسلم!

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل مع رسل الأعداء كأرقى ما تكون المعاملة، ولم يكن ذلك عن ضعف أو خوف -حاش لله- بل كان عن ثقة في النفس، وقبل ذلك اتباع للشرع، وطاعة لرب العالمين.

المطلب الرابع: التغاضي عن أخطاء الرسل ولو كانت كبيرة

من هذا مثلاً ما رأيناه منه صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث مع رسولَيْ مسيلمة الكذاب، فهذان الرسولان جهرا بأنهما يؤمنان بمسيلمة الكذاب، ويتبعانه في دينه، وهذا يعني أنهما من المرتدين الذين تحل دماؤهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «‏لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: ‏الثَّيِّبُ‏ ‏الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» . فهذا حكم الذي ارتدَّ عن دينه وترك الجماعة، وهذان لم يرتدا فقط، ولم يكتفيا بترك الجماعة، ولكنهما يقومان بفتنة الناس، والدعوة إلى اتباع مسيلمة، بل جاءا يساومان رسول الله صلى الله عليه وسلم على اقتسام النبوة أو تبادلها، فلو سار الإنسان مع هواه، ونظر في المصالح دون مراعاة للشرع ولا لمطلق العدل، لكان قتلهما أمرًا هينًا متوقعًا… لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف العجيب يحفظ دماءهما؛ لأنهما من الرسل، والرسل -عُرْفًا- لا تُقتل، والشرع يقرُّ ذلك العرفَ ويؤكده. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبًا الرسولَين المرتدَّيْن: «أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا» .

إن رِدَّةَ هذين الرسولين وكفرهما وخطورة أمرهما لم تدفعه صلى الله عليه وسلم إلى ظلمهما أو إلى التعدي عليهما، بل أمَّنَهُمَا في منتهى الرقي، وعاش مؤكِّدًا على هذا المنهج القويم حتى مع مخالفة أعدائه له، بل إن مسيلمة الكذاب نفسه لما ظفر بأحد رسل المسلمين وهو حبيب بن زيد رضي الله عنه قطعه عضوًا عضوًا، حتى لقي حبيبٌ ربَّهُ شهيدًا؛ لتظهر الصورة أكثر وأكثر، وليعرف الجميع الفرق الشاسع بين المنهج الإسلامي والمناهج الأخرى، وليدرك كل مُطَّلع المسافات الهائلة بين قانون السماء وقوانين الأرض.

المطلب الخامس: موقف أغرب من الخيال!

يقولَ أبو رافع رضي الله عنه: بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ، وَلَكِنِ ارْجِعْ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ». قَالَ فَذَهَبْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمْتُ.

إن هناك ألف مبرر للاحتفاظ بهذا الرسول بعد أن طلب هو بنفسه ذلك مختارًا غير مُكْرَه، فقد يُفتن في دينه عند قريش، كما أن عدم عودته ستؤثر سلبًا – ولا شك – على قريش، فوق أنه هو الذي اختار، وهو رجل حر بالغ له صلاحية أن يأخذ قراراته بنفسه، ثم نحن في حالة حرب، وما أكثر جرائم قريش في حق المسلمين، وحتى لو كان إبقاؤه مستهجنًا فما أكثر الأمور المستهجنة التي فعلتها قريش فلتكن المعاملة بالمثل هي القانون!! قل كل ذلك أو أكثر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأخذ به! إنه لا يخيس العهد، أي لا يخون العهد، ولا يحبس البُرُد، أي لا يحبس الرسل، لأن في ذلك مخالفة للعرف، وقد بَنَت قريشٌ حساباتها على عودة الرسول إليها، فإذا حبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك في مقام الخيانة، حتى وإن لم يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه عهدًا بإعادته!!

وما أحسب أن أحدًا من الزعماء في العالم يفقه – فضلاً أن يُطبِّق – مثل هذه الأخلاق!!

المصدر: كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية) للدكتور راغب السرجاني.

[/size][/center]