الحروب التاريخية ضد المسلمين .. د/ راغب السرجاني

[CENTER][SIZE=“3”]

أولاً: الحروب الصليبية:

تعد سلسلة الحملات الصليبية التي شنَّها العالم الغربي على العالم الإسلامي، من أبرز الأمثلة التاريخية للفساد الخلقي، ولاسيما أنها استخدمت شعارات دينية لتحقيق أهداف دنيوية ضيقة، وتحت شعار تحرير المقدسات قامت بأبشع أعمال السلب والنهب…

لقد بدأت الحرب الصليبية بعد حملة إعلامية كاذبة ومضللة، ولعل أول من وقع في براثنها هم البسطاء من شعب أوروبا الذين تم تجنيدهم باسم نُصرة الدين، والغرض الحقيقي كان خدمة مصالح وأهداف الفئة الحاكمة التي أرادت تغطية فشلها في أمور الحكم عن طريق شغل الشعب بقضية كبيرة براقة…

وقد سجل المؤرخ الأمريكي المعاصر ول ديورانت في سِفره القيم قصة الحضارة، وفي تأريخه لهذه المرحلة من التاريخ الأوروبي الكثير من مظاهر الكذب الذي بُنِيَت عليه الحملات الصليبية فقال: “كان من الأسباب المباشرة للحروب الصليبية هو رغبة المدن الإيطالية في توسيع ميدان سلطانها التجاري الآخذ في الازدياد، بعد الاستيلاء على صقلية، وأجزاء كبيرة من أسبانيا من تحت سيطرة العالم الإسلامي (452هـ- 483هـ)؛ حيث أصبح البحر المتوسط الغربي حرًا للتجارة المسيحية، وعمَّ الرخاء المدن الإيطالية نتيجة هذه التجارة، ومن ثَمَّ أخذت تتطلع للقضاء على نفوذ المسلمين في الجزء الشرقي من البحر المتوسط، وفتح أسواق الشرق الأدنى لبضائع غرب أوروبا، ولسنا نعلم إلى أي حد كان هؤلاء التجار الإيطاليون قريبين من مسامع البابا؟!”.

أما عن الأسباب المعلنة للحرب الصليبية فقد أورد ديورانت نص الخطاب الذي ألقاه البابا على مسامع الوفود التي تم جمعها من شتى أنحاء أوروبا، وقد جاء في هذا الخطاب: " يا شعب الفرنجة! شعب الله المحبوب المختار! لقد جاءت من تخوم فلسطين، أنباء محزنة تعلن أن جنسًا لعينًا (يقصد المسلمين!) أبعد ما يكون عن الله، قد طغى وبغى في تلك البلاد، بلاد المسيحيين، وخربها بما نشره فيها من أعمال السلب وبالحرائق، ولقد ساقوا الأسرى إلى بلادهم وقتلوا بعضهم الآخر بعد أن عذبوهم أشنع التعذيب، وهم يهدمون المذابح في الكنائس، بعد أن يدنسوها، على من إذن تقع تبعة الانتقام لهذه المظالم، كما أن الأرض التي تسكنوها ضيقة وطعامها لا يكفيكم، فاذهبوا وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث، وتملكوها أنتم، إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها، هي فردوس المباهج" .

وبالفعل تم تجهيز جيش عرمرم وتوجه نحو فلسطين لإنفاذ مهمته المقدسة!!

وضرب الصليبيون الحصار حول القدس مدة أربعين يومًا كاملة حتى سقطت في أيديهم، فماذا تراهم فعلوا حماة الدين في الأراضي المقدسة؟

يصف المستشرق الفرنسي الشهير جوستاف لوبون سلوك الصليبيين وأخلاقهم بعد احتلالهم القدس قائلاً: “لقد كان سلوك الصليبيين حين دخلوا القدس غير سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- نحو النصارى حين دخلها منذ بضعة قرون، حيث عقد الصليبيون مؤتمرًا أجمعوا فيه على إبادة جميع سكان القدس، من المسلمين، واليهود، وخوارج النصارى، الذين كان عددهم نحو ستين ألفًا، فأفنوهم عن بَكْرَةِ أبيهم في ثمانية أيام، ولم يستثنوا منهم امرأة، ولا ولدًا، ولا شيخًا!! فقد قطعت رءوس بعضهم، وبقرت بطون بعضهم، وحرق بعضهم في النار، فكانوا يضطرون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار!..”.

كما أورد المؤرخ ديورانت في كتابه قصة الحضارة شهادة قس يدعى ريموند الإجيلي وكان شاهد عيان على أفعال الصليبيين في القدس فقال: “لقد شاهدنا أشياء عجيبة، إذ قطعت رءوس عدد كبير من المسلمين وقتل غيرهم رميًا بالسهام، أو أرغموا على أن يلقوا بأنفسهم من فوق الأبراج، وظل بعضهم الآخر يعذبون عدة أيام، ثم أحرقوا في النار، وكنت ترى في الشوارع أكوام الرءوس والأيدي والأقدام، وكان الإنسان أينما سار فوق جواده يسير بين جثث الرجال والخيل” .

ثانيًا: إعصار التتار:

نذكر التتار كمثال للقسوة المفرطة، والتجرد من أي مشاعر إنسانية، لقد اجتاحت عاصفة الهمجية التترية أنحاء العالم أجمع، فأتت على الأخضر واليابس، ويكفي أن نذكر من مآسيهم ما فعلوه إثر إسقاطهم عاصمة الخلافة الإسلامية مدينة بغداد (656هـ) حيث قتلوا خليفة المسلمين ومعاونيه ومعهم مليون مسلم ما بين رجل وامرأة وطفل وشيخ، لقد استمر التقتيل أربعين يومًا كاملة رغم استسلام المسلمين!!

وبجانب بشاعة التتار في قتلهم وتنكيلهم للبشر وإفسادهم في الأرض يأتي ما فعلوه في مكتبة بغداد كدليل على رغبتهم المريضة في القضاء على أي رمز للحضارة والتقدم، لقد كانت مكتبة بغداد أعظم دور العلم على وجه الأرض في ذلك الوقت، واستطاعت الحفاظ على هذه المكانة الرائدة قرابة خمسة قرون متتالية، لقد كانت تحوي ملايين المجلدات في زمان ليس فيه طباعة!! لقد كانت مكتبة بغداد بمثابة جامعة هائلة، حوت خلاصة ما وصل إليه الفكر الإنساني في الدنيا بأسرها، فماذا فعل التتار بهذا العلم؟ لقد حمل التتار الكتب الثمينة وألقوها في نهر دجلة!! حتى تحول لون مياه النهر إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب، وبكل أسف فإن مثل هذه الجرائم متكررة في التاريخ، فقد فعلها الصليبيون في الشام عندما أحرقوا ثلاثة ملايين كتاب في مكتبات طرابلس اللبنانية، وفعلها الصليبيون أيضًا في الأندلس عندما أحرقوا مليون كتاب من مكتبة غرناطة!!

أي فساد وأي إفساد في الأرض !

ثالثًا: سقوط الأندلس:

سقطت الأندلس في يد الأسبان بسقوط آخر معاقلها مملكة غرناطة في 2 ربيع الأول 897هـ، وقد استعصت غرناطة على الغزو العسكري، وصمدت أمام الحصار، وهنا لم يجد الملك الصليبي فرناندو وشريكته إيزابيلا مَلِكَي قشتالة وأرجون أمامهما إلا المفاوضات التي انتهت بعقد معاهدة مع محمد بن أبي الحسن ملك غرناطة … وكانت المعاهدة تنص على تسليم غرناطة مقابل التعهد بعدم المساس بمقدسات المسلمين، وغيرها من الشروط التي تحفظ على المسلمين دينهم وأعراضهم وأموالهم…

لقد تعهد الملكان الكاثوليكيان كتابةً في المعاهدة ما نصه: “أن ملكي قشتالة يؤكدان ويضمنان بدينهما وشرفهما الملكي، القيام بكل ما يحتويه هذا العهد من نصوص، ويوقّعانه باسميهما ويمهرانه بخاتميهما”.

ثم تكرر هذا التعهد بعد مرور سنة على تسليم غرناطة بما نصه: “ينبغي على الأمير، وسائر عظماء المملكة بالمحافظة على محتويات هذا العهد، وألا يعمل ضده شيء، أو ينقض منه شيء الآن وإلى الأبد، وأنهما يؤكدان ويقسمان بدينهما وشرفهما الملكي بأن يحافظا ويأمران بالمحافظة على كل ما يحتويه بندًا بندًا إلى الأبد، وقد ذُيِّل هذا التوكيد بتوقيع الملكين، وتوقيع ولدهما وجمع كبير من الأمراء والأحبار والأشراف والعظماء” …

ولكن ما أن مرت بضع سنوات واستقر الأمر للغزاة في ديار المسلمين إلا وظهر الوجه القبيح وبدأ نقض بنود المعاهدة واحدًا تلو الآخر، وحدث تعاون أثيم بين السلطات القشتالية والكنيسة لفرض أمر واقع جديد، وظهرت محاكم التفتيش تبحث عن كل مسلم، وزالت حرمة المسلمين، وأدركهم الهوان والذلة، واستطال عليهم النصارى، وفرضت عليهم المغارم الثقيلة، ثم التعذيب والبطش، وقطع عنهم الآذان في الصوامع، وأجبروهم على الخروج من غرناطة إلى القرى، فخرجوا أذلة صاغرين، ثم بعد ذلك تم إجبار المسلمين على التنصر، حتى صارت الأندلس كلها للنصارى، ولم يبق من يجهر بكلمة التوحيد والآذان، وجعلت في المساجد والمآذن النواقيس والصلبان، بعد ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، وإنا لله وإنا إليه راجعون !!

المصدر: كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية) للدكتور راغب السرجاني.

[/size][/center]