المسلمون وعلم الحيوان .. د/ راغب السرجاني

[CENTER][SIZE=“3”]

إن الحق الذي لا مساس فيه أن تاريخ الحضارة الإسلامية بصفة خاصَّة، والحضارة الإنسانية بصفة عامَّة يؤكدان على مدى التقدم المذهل الذي حققه علماء المسلمين طوال حقب زمنية متعاقبة قد لا تقل عن سبعة أو ثمانية قرون على أقل تقدير في مضمار علم الحيوان وملحقاته. وسنرى أن المسلمين أضافوا كثيرًا مما لم يكن معروفًا عن هذا العلم قبل ذلك؛ فقد اهتموا بمعرفة وتدوين الملاحظات الدقيقة على كل حيوان من الحيوانات فيما يختصُّ بحياته وخَلْقِهِ، واهتموا أيضًا بعلم البيطرة والثروة الحيوانية وكل ما يتعلق بتطورها ونمائها، وسبقوا غيرهم من الأمم إلى الحديث عن سلوك الحيوان.

وعلم الحيوان عند المسلمين، كما يذكر طاش كبرى زاده في كتابه (مفتاح السعادة) هو: “علمٌ باحثٌ عن خواص أنواع الحيوانات وعجائبها ومنافعها ومضارِّها، وموضوعه: جنس الحيوان البري والبحري والماشي والزاحف والطائر وغير ذلك، والغرض منه: التداوي والانتفاع بالحيوانات والاحتماء عن مضارِّها، والوقوف على عجائب أحوالها، وغرائب أفعالها”.

وقد يكون من غمط الحق، والبعد عن جادَّة الصَّواب أن نزعم أن المسلمين لم يتطرقوا لما كتبه السابقون عليهم في هذا المجال؛ فقد درسوا كثيرًا مما كتبه الصينيون والمصريون القدماء والبابليون واليونان والرومان، وترجموا معظم كتبهم عن علم الحيوان إلى اللغة العربية، لكنهم -بلا ريب- أضافوا الكثير مما لم ينتبه إليه السابقون، وبرز العديد من العلماء الأجِلاَّء في هذا المضمار ، ومن خلال المباحث التالية نستعرض إسهامات المسلمين في علم الحيوان:

المبحث الأول: مكانة علم الحيوان عند المسلمين

وعلى الرغم من أن إسهام المسلمين في حقل الحيوان لم يأخذ حقَّه مثل إسهامهم في بقية العلوم، إلا أن لهم آراء سبقوا بها أفكار بعض المُحْدَثين؛ فعلى سبيل المثال تُنسب نظرية التكافل أو المشاركة الحيوانية للفيلسوف الألماني جوته (ت 1162هـ/ 1749م)، إلا أننا نجد إشارات واضحة لدى كل من الجاحظ والقزويني والدَّمِيري لهذه النظرية التي مفادها أن بعض الحيوانات التي تعيش في بيئة مكانية واحدة، قد يربط بينها نوع من المصلحة المشتركة؛ لذا تنشأ بينها مودة، كأن يحطُّ طائر البقر فوق البقرة ليلتقط منها الهوامَّ، أو كأن ينظف طائر التمساح أسنان التمساح مما علق بها من بقايا اللحوم.

فالجاحظ يقول: إن بين العقارب والخنافس مودَّة، والغراب مصادقٌ للثعلب، والثعلب صديق للحيَّة، وهناك عداوة بين العُقَاب والحية، أما الدَّميري فيؤكد على أن بين الضَّبّ والعقرب مودة، وأنها تعيش في جُحْره لتحميه من الأعداء، فمن حاول التحرُّش به ودخل جحره، سيجد العقرب مستعدة للسْعه.

أما القزويني الذي سبق الدّميري فيقول: إن الببر الهندي الضخم الذي يفوق الأسد في القوة، صديق للعقرب التي تبني لها بيتًا في شعر الببر، وأيضًا هناك صداقة قوية بين الذئب والضبع، وكذلك بين النمر والأفعى .

ولا يغيب أثر البيئة عند القزويني الذي يرى أن البيئة تؤثر في التوالد والتفريخ، فيقول في (عجائب المخلوقات): فالفيلة لا تتولد إلا في جزائر البحار الجنوبية، وعمرها في أرض الهند أطول من عمرها بغير أرض الهند، وأنيابها لا تعظم مثل ما تعظم بأرضها، والزرافة لا تتولد إلا بأرض الحبشة (إفريقيا الشرقية)، والجاموس لا يتولد إلا بالبلاد الحارة قرب المياه، ولا يعيش بالبلاد الباردة، والسنجاب والسَّمُّور وغزال المسك لا يتولد إلا في البلاد الشرقية الشمالية، والصقر والبازِي والعُقاب لا يتفرخ إلا على رءوس الجبال الشامخة، والنعامة والقَطَا لا يفرخان إلا في الفلوات، والبطوط وطيور الماء لا تفرخ إلا في البساتين، والحَجَل لا يفرخ إلا في الجبال، هذا هو الغالب، فإن وقع شيء على خلاف ذلك فهو نادر .

ولإخوان الصفا رأي في الحيوان لم يُسبَقوا إليه، وإن كان رأيًا فلسفيًّا أكثر منه علميًّا؛ ففي ثنايا حديثهم عن الخلائق يدللون على قدرة الخالق بالمقارنة بين الفيل أضخم الحيوانات والبَقَّة أهون الحشرات: إن أكثر الناس يتعجبون من خلقة الفيل أكثر من خلقة البقة، وهي أعجب خلقة وأظرف صورة؛ لأن الفيل -مع كبر جثته- له أربع أرجل وخرطوم ونابان خارجيان، والبقة -مع صغر جثتها- لها ست أرجل وخرطوم وأربعة أجنحة وذَنَبٌ وفم وحلقوم وجوف ومصارين وأمعاء، وأعضاء أخرى لا يدركها البصر، وهي -مع صغر جثتها- مسلطة على الفيل بالأذية، ولا يقدر عليها، ولا يمتنع بالتحرز منها.

وكان التصنيف الحيواني من جملة إنجازات المسلمين وإسهاماتهم المميزة في علم الحيوان، فلم يكن تقسيمهم للحيوان موحَّدًا، إذ بدأ عامًّا مطلقًا؛ إذ قسموا الحيوانات إلى أليفة ومتوحشة وضارية، ثم لما انتقلوا من الوصف اللغوي إلى التناول شبه العلمي، قسَّموها إلى نوعٍ يمشي وآخر يطير وثالث يسبح ورابع ينساح (يزحف)، ومنهم من قسمها إلى تام وناقص.
فالقزويني -مثلاً- يجعل الحيوان في المرتبة الثالثة من الكائنات بعد أن جعل الأولى والثانية للمعادن والنباتات على التوالي، وقسّم الحيوان بدوره إلى أنواع متعددة جعل الإنسان في قمتها؛ فهو أشرف الحيوانات وخلاصة المخلوقات، وصنّف الحيوان إلى سبعة أقسام: الإنسان، والجن، والدواب؛ وذكر منها: الفرس، والبغل، والحمار، وحمار الوحش وغيرها، وبيَّن خواصَّ كل منها، ثم النَّعَم؛ وهي حيوانات كثيرة الفائدة شديدة الانقياد، ليس لها شراسة الدواب ولا نفرة السباع، كالإبل والبقر والجاموس والزراف وغيرها، ثم السباع كابن آوى وابن عُرْسٍ والأرنب والخنزير والذئب والضبع والفهد والفيل والكَرْكَدَّنِ والكلب والنمر، ثم الطير ومنها أبو بَرَاقِش والأوز والباقش والببغاء والبلبل والحُبَارى والحدأة والحمام والخفاش، ثم الهوام والحشرات، وهذا النوع لا يمكن ضبط أصنافه لكثرته: كالأرضة والبرغوث، والأفعى، والجراد، والحرباء، والحلزون، والخنفساء.

أما الجاحظ فقد ذهب في ذلك شوطًا بعيدًا، حيث قسّم الحيوانات إلى فصائل؛ ففي باب الحيوانات ذات الأظلاف يذكر الظباء والمعز والبقر الوحشي والبقر الأهلي والجواميس والوعول والتياتل، ومن خلال حديثه عن هذه الفصيلة تَرِدُ ملاحظات علمية كأن يقول: “والبقرُ الوحشيُّ ذاتُ أظلافٍ، وهي بالمَعْز أشبَهُ منها بالبقر الأهليّ، وهي في ذلك تسمَّى نعاجًا”.

ويقسِّم الجاحظ الحيوان عامة إلى أربعة أقسام: شيء يمشي، وشيء يطير، وشيء يسبح، وشيء ينساح، إلا أن كل طائر يمشي، ولا يسمِّي الذي يمشي ولا يطير منها طائرًا، كما أنه ليس كل ما طار من الطير؛ فقد يطير الجِعْلان، والذباب والزنابير والنمل والأرضة لكنها لا تسمَّى طيرًا، كما أن ليس كل عائم سمكًا على الرغم من مناسبته للسمك في كثير من الصفات؛ إذ إن في الماء كلب الماء وخنزير الماء والسلحفاة والضفدع والتمساح والدلفين.
أما الحيوان عند إخوان الصفا فصنفان: تام الخلقة، وناقص الخلقة؛ تام الخلقة: هو الذي ينزوي ويحبل ويلد ويرضع، أما ناقص الخلقة: فهو كل حيوان يتكون من العفونات، ومنها ما هو كالحشرات والهوام وما هو بين ذلك، كالتي تنفذ وتبيض وتحضن وتربي. وأشار إخوان الصفا إلى التطور في خلق الحيوان: ثم إن الحيوانات الناقصة الخلقة متقدمة الوجود على التامة الخلقة بالزمان في بدء الخلق، وذلك أنها تتكون في زمان قصير، والتي هي تامة الخلقة تتكون في زمن طويل. وقسموا الحيوانات وَفْق بيئاتها؛ فمنها سُكَّان الهواء، وهي أنواعٌ: الطيور أكثرها والحشرات جميعًا، ومنها سكَّان الماء، وهي حيوانات تسبح في الماء كالسمك والسرطان والضفادع والصدف ونحو ذلك، ومنها سكان البر؛ وهي البهائم والأنعام والسباع، ومنها سكان التراب وهي الهوام.

المبحث الثاني: إسهام المسلمين في علم البيطرة

يعدُّ الطب البيطري وتطوره عند المسلمين من العلامات المميزة على إنجازاتهم في مجال علم الحيوان بصفة عامة؛ فلقد تطور الطب البيطري في ظل الإسلام ولاقى عناية كبيرة بفضل تعاليمه التي تأمر بالرفق بالحيوان، وبحسن تغذيته والعلاج في حينه، وعدم تحميله فوق طاقته، ومنع قتل الحيوان إلا لمنفعة أو لسبب إنساني.

ومن قواعد الشريعة (قوانين الدولة الإسلامية) تحريم استعمال المناخس المعدنية الجارحة لدفع الحيوان على الإسراع، وتحريم خرم الأنف لشد الحيوان منه لأنه يؤلم، وتحريم الوشم على الوجه لأنه يشوِّه، وإذا ذُبح الحيوان ذبحًا غير شرعي -أي بما يشترطه الشرع من الرفق والتكبير وسَنِّ الشفرة- فإن لحمه يصبح حرامًا.

وقد نهى الإسلام عن اتخاذ أي حي -سواء كان حيوانًا أو طائرًا- غرضًا لمجرد التدريب على الرماية أو جرحه لمجرد التسلية أو اللهو (كما في مصارعة الثيران) فقد كانت محرَّمة على عهد الدولة الإسلامية في الأندلس؛ لما فيها من تعذيب للحيوان.

وقد كان لهذه التعاليم الفضل في عناية المسلمين بعلم الحيوان والطب البيطري، وكان اهتمام المسلمين الأعظم بالفَرَس؛ لأنه رفيقهم في الحرب والجهاد، فكتبوا عن أنواع الخيل وخصائص كل نوع وعيوبه ومميزاته، ثم كتبوا عن أمراضه وعلاجاتها، كما أعطوا اهتمامًا كبيرًا للصقور لعلاقتها بالصيد والرياضة، ومع أن كتاب (الحيوان) للجاحظ قد غلب عليه الطابع الأدبي إلا أنه يحوي من الحقائق العلمية عن الحيوانات ما يستحق وضعه في أبواب العلم.

ومن ذلك ما فصَّله عن خصاء الحيوانات ومنافعه ومضاره؛ فقد أوضح أن خصاء الحيوان يكون في سبيل تسمينه أو توفير قوته للحمل، أو الجر، أو الجري في السباق، أو لإخفاء صوته كما تُخصى خيل الغزو كيلا تصهل فتنبِّه العدو لمكانها.
وقد تحدَّث عن أثر التزاوج بين جنسين من الحيوان مثل الذئب والكلبة، والحمار والفرس، والحمام البري والأليف، وهو أول من بيَّن أن خصية واحدة تكفي للتناسل، وأن الحيوان منزوع إحدى الخصيتين يعيش طبيعيًّا.

وقد اهتم المسلمون بعلم تشريح الحيوان، وأقيمت أول مشرحة على نهر دجلة في بغداد، وكان الهدف منها:

أولاً: تعليم طلبة الطب جسم الإنسان عن طريق ما يسمَّى (بالتشريح المقارن)؛ فكان الاهتمام في هذا المجال بالقردة المستوردة من النوبة، وهي فصيلة خاصة شبيهة في تركيبها بجسم الإنسان.

ثانيًا: تعلُّم الطب البيطري ورعاية الحيوان:

ويذكر سارتون أن من أهمية علم البيطرة عند المسلمين ولشدة احترامهم لهذه المهنة تجد الكثير من العائلات تأخذ كُنية البيطري؛ ومن ذلك عالم النبات المشهور “ابن البيطار” الذي يدلنا نسبه أن أباه كان متخصصًا في علاج الحيوانات، وأن هذا العلم قد أصبح فرعًا متخصصًا من فروع العلاج في ذلك الوقت المبكر في التاريخ الإسلامي.

ولكي نعطي القارئ فكرة عن المدى الذي وصل إليه المسلمون من التطور العلمي في ميدان الطب البيطري… حسبنا أن نسرد بعض الأبواب من كتاب (الفروسية) الذي ألّفه أحمد بن الحسن بن الأحنف (البيطار) في سنة (596هـ/ 1200م)، وهو عبارة عن موسوعة علميَّة في أمراض الخيل ورعايتها (موجودة في المكتبة التيمورية بالقاهرة رقم 108).

فالباب الأول: يتناول دراسة أسنان اللبن والأسنان الثابتة، والباب الثاني: عن المظهر الخارجي والصفات العامة المميزة للفرس والحمار والبغل، والباب الثالث: وظائف الأعضاء الخارجية، والباب الرابع: عن الفروسية وطريقة الركوب، والباب الخامس: عن سباق الخيل، والباب السادس: عن العيوب الوراثية في الخيل، والباب السابع: عن الصفات السيئة والعيوب الجسميَّة، والباب الثامن: تقسيم البطن، والباب التاسع: عن أمراض الرأس والعيوب الخِلْقيَّة، ومن جملة أمراضها: الرقبة والحلق، وأمراض الكتف والصدر، وأمراض الظهر، والأمراض الداخلية والباطنية، والذيل وعيوبه، والفخذ والساق، وأمراض الأعصاب، والكسور والخلع وجبرها، وحميات الخيل، والأمراض الجلدية مثل الجرب والحكة والدمامل والجدري والجذام والحروق .
هذه الموضوعات العريضة والدقيقة التي يطرقها المؤلف في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي تدلنا على مدى اهتمام المسلمين بالبيطرة وعلاج الحيوان منذ وقت مبكر، وعلى إنجازاتهم وتفوقهم في هذا الميدان .

المبحث الثالث: المسلمون وعلم الطيور الجارحة (البيزرة)

يكاد الصيد بالطيور الجارحة كالبازي والصقر والشاهين وغيرها أن يكون من أكثر الظواهر الحضارية تغلغلاً في حياتنا العربية والإسلامية على مرِّ الزمن؛ سواء في ذلك الشِّعر والرسم والأمثال والقصص الشعبي، ولشدة تعلق الناس على مختلف المستويات بهذا النوع من الصيد تطور من مجرد “هواية” ترضي طلاَّب الرياضة والمتعة إلى علم ذي قواعد وأصول تتناول كيفية تدريب الطيور في الإرسال والدعاء، وكيفية تغذيتها ومراعاتها في فترة القرنصة، وعلاجها إذا ألمّ بها مرض في أي جزءٍ من أجزاء الجسم، وغدا لهذا العلم الذي يسمى (البَيْزَرة) مصطلحاته الخاصة به، وخبراؤه وعلماؤه الذين يعرفون كل ما يهمُّهم في هذا الميدان على المستويين النظري والعلمي.

إذن فعلم معرفة الطيور الجارحة من حيث صحتها ومرضها، ومعرفة العلائم الدالة على قوتها في الصّيد كان معروفًا عند المسلمين باسم (البيزرة). وتكاد تتفق المصادر على أن كلمة (البيزرة) مأخوذة من اسم الباز أو البازي، وهو نوع من الصقور، ولعل الاقتصار في إطلاق اسم البازي على هذا العلم دون غيره، يرجع إلى كونه أشهر طيور الصيد وأمهرها في الإمساك بالفريسة، وقد وصفه أبو عبد الله القزويني في كتابه (عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات) بأنه “أشد الجوارح تكبُّرًا وأضيقها خلقًا (مزاجًا) يوجد بأرض الترك”.

أما الذي يقوم بحرفة البيزرة فهو (البيزار) الذي يُدرِّب جوارح الطير على الصيد، وأصل هذه الكلمة فارسي أُخذ من كلمة (البازيار) أو (الباز دار)، وهي تعني القائم بأمر البازي أو الحامل له في الصيد.

ولا يُعرف على وجه الدقة أول من وضع قواعد هذا العلم وفنونه، غير أن من الآراء من تحدو بهذا العلم صوب الهنود، ومنها ما يُعزيه نحو البطالمة، لكن الصيد كان عند العرب حرفة وهواية مشهورة، وقد وضعه الإسلام موضع نعمة منَّ الله بها على عِباده؛ فقال تعالى في كتابه الكريم: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 4]، فتعليم وتأديب الإنسان لهذه الجوارح، سواء من الطير أو السباع، ثم الاستعانة بها على الصيد هو نعمة من نعم الله على عباده، والتي لا يعلم حقيقتها إلا المشتغلون في هذا العلم؛ فمن ثمرات هذا العلم أنه يحفظ ماء وجه الفقير المحتاج، أو كما قال بازيار العزيز بالله الفاطمي في كتابه (البيزرة): “لا يكاد يحب الصيد ويؤثره إلا رجلان متباينان في الحال، متقاربان في علوِّ الهمة، إما ملك ذو ثروة…، والفقير الزاهد لظلف نفسه عن دنيِّ المكاسب، ورغبتها عن مصرع المطالب، وحقنه ماء وجهه عن غضاضة المهن”.

وقد كان (البازيار) في الخلافتين الأموية والعباسية يُدعى: (صاحب الصيد)، وسرعان ما أصبحت البيزرة من مقومات حياة الخلفاء، ينُفق عليها من بيت المال كما ينفق في غيرها من القوى والأوضاع، حتى كان المُعطَى إلى البيَازِرة في أيام نزار (الخليفة الفاطمي) يُقدَّر بخمسين ألف دينار؛ وذلك لأرزاقهم وطعام جوارحهم، سوى الدواب التي تُشترى لهم في كل سنة.

أما إسهامات علماء المسلمين في هذا العلم فكانت كثيرة ومتنوعة، كل منهم قد عني بهذا العلم من نواحٍ متعددة؛ فمنهم من عني بالجانب اللغوي مثل كتاب (الطير) للسجستاني، وكتاب (الوحوش) للأصمعي، وكتاب (البازي) و(الحمام) وكتاب (العُقاب) لأبي عُبيدة، ومنهم من عُني بالناحية الفقهية، وحكم الشرع الحنيف في الصيد بالجوارح، مثل كتاب (الصيد والذبائح) للإمام الشافعي، وكتاب (الصيد والذبائح) لمحمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة ~، ومنهم من تناول علم البيزرة العام: مثل كتاب (الكافي في البيزرة) لعبد الرحمن بن محمد البلدي، وكتاب (الجمهرة في البيزرة) لعيسى الأزدي، وكتاب (البيزرة) لبازيار العزيز بالله الفاطمي، وكتاب (نزهة الملوك والسادات بالطيور والجوارح والجياد الصافنات) لمؤلف مجهول وهو مطبوع، وكتابي (البيزرة) و(ضواري الطير) للغطريف بن قدامة الغسّاني.

وقد رأينا الجاحظ في كتابه (الحيوان) يهتم بالبيزرة، ويضع لذلك فصلاً مستقلاًّ بعنوان (جوارح الملوك)، فيذكر أن من جوارح الملوك “الباز والفَهد، والشاهين، والصَّقر، والزُّرَّق، واليُؤْيُؤ، وليس ترى شريفًا يستحسِنُ حملَ البازي -لأنّ ذلك من عمل البازيار- ويستهجن حمل الصُّقور والشواهين وغيرها من الجوارح، وما أدري علَّة ذلك إلا أنّ البازَ عندهم أعجميّ، والصَّقر عربيّ”، وقد صرّح الجاحظ في كلامه السابق بما كان يدور في عصره من النزعة الشُّعوبية التي طالت كل شيء حتى وصلت إلى استحسان أو استهجان حمل الطيور الجارحة تبعًا لصاحبها: العربي أو الأعجمي.

ومهما يكن من أمر الجاحظ فإن مجرد ذكره الطيور الجارحة، وعَنوَنة ذلك الموضوع باسم (جوارح الملوك) ليُدلل على اهتمام علماء المسلمين بهذا الشأن في تلك الفترة الزمنية (أي في القرن الثالث الهجري). وقد لاحظنا أن الجاحظ قد تطرّق إلى ذكر النوع الجيد من هذه الجوارح الذي يستجيب للتدريب، كما تطرّق إلى ذكر بعض مساوئ هذه الجوارح، فقال: “ومن الحيوان الذي يُدرَّب فيستجيب ويَكيس؛ ويُنصَح العَقْعَقُ فإنّه يستجيبُ من حيثُ تستجيبُ الصُّقور ويُزْجر فيعرف ما يُرَاد منه، ويخبأ الحَلي فيُسأل عنه ويُصاح به فيمضي حتى يقفَ بصاحبه على المكان الذي خبَّأه فيه ولكن لا يلزم البحث عنه، وهو مع ذلك كثيرًا ما يُضيع بيضه وفِراخه” .

ونجد (بازيار العزيز بالله الفاطمي) -ويُعتقد أن اسمه أبو عبد الله الحسن بن الحسين المتوفَّى في القرن الرابع الهجري- في كتابه (البيزرة) -وهو كتاب صغير الحجم لا يتعدى متنه الستين صفحة- قد قسَّم كتابه إلى عدد متنوع من الفصول المتعلقة بجوارح الطير والسباع، إلا أن غالبية صفحات الكتاب تدور حول البيزرة وجوارح الطير، من حيث أسمائها وصفاتها وأمراضها وطرق معالجتها، ثم طريقة تدريبها والاستفادة بأقصى ما يمكن الاستفادة به منها. ثم يُضيف في نهاية كتابه موضوعًا مهمًّا يتناول فيه كيفية الصيد في ضوء القمر، وهذا الباب لم يتناوله أحد من قبله، والكتاب مع هذا كله قد تطرّق لأشعار وأنثار وحكم السابقين في هذا المضمار، وأخبار الخلفاء والملوك الذين عنوا بالصيد واهتموا به.

وتظهر خبرة بازيار العزيز بالله الفاطمي واضحة جلية في هذا الكتاب؛ فالمؤلف قد صقَّلته الخبرة، وعلّمته السنون؛ فقد امتدت به التجرِبة مدةَ عشرين عامًا كاملة قبل أن يبدأ في تأليف هذا الكتاب؛ لذلك كانت لديه مكانة مرموقة عند الخليفة نزار الفاطمي الذي عينه وزيرًا من وزرائه مدة سنة ونصف، ثم أصبح كبير رؤساء البيازرة عنده، حتى قدّر له راتبًا بعشرين ألف دينار، وهذا راتب ضخم جدًّا يُدلل على مكانة البيزرة في نفوس الخلفاء والملوك والسادات في هذا العصر.

وقد رأيناه في كتابه (البيزرة) يُفضِّل الصقور على الشواهين مع أن غالبية المشتغلين في هذا الأمر يرون العكس، وقد علّل ذلك بسبب فراهة ألوانها وأوزانها، وقدرة الصقور على اصطياد ما لا تقدر عليه الشواهين .

وممن اهتم بعلم الطيور الجارحة، وذاع صيته في هذا الشأن، نجدُ عبدَ الرحمن بن محمد البلدي المتوفَّى في القرن السابع الهجري في كتابه (الكافي في البيزرة)، وقد أوضح فيه الأُسُسَ المنهجية في هذا العلم، فذكر أن البيزرة تنقسم إلى أربعة أقسام، يقع كل منها في أربعة أبواب.

فأما القسم الأول فيتناول معرفة أجناس الجوارح، ويبحث الباب الأول منه في عدد أصناف الجوارح، والباب الثاني في الفرق بين كل جنس منها والآخر، والباب الثالث في ذكر النافع من أصنافها، والباب الرابع في عدد ألوانها.

ويختصُّ القسم الثاني بمعرفة النوع الفاضل المختار من الجنس النافع من الجوارح، ومعرفة الرديء منها، ويتناول الباب الأول من هذا القسم معرفة الجيد والرديء من قِبل معدنه، والثاني معرفة الجيد والرديء من قبل صورته وهيئته، والثالث معرفة الجيد والرديء من قبل لونه، والرابع معرفة الجيد والرديء من قبل أخلاقه وأفعاله.

كما يهتم القسم الثالث بمعالجة “تدبير الجوارح النافعة ورياضتها”، ويبحث الباب الأول منه في ذكر من لعب بالضواري، وتصيّد بها، والثاني في وصية المتعلِّم لهذه الصناعة والمتعرض لها، والثالث في نعت الإجابة والتعلم لكل نوع، والرابع في تقدير طعم الضواري على طبيعة كل واحد منها.

ويتناول القسم الرابع: “مداواة أمراض الجوارح” وفيه أربعة أبواب؛ الأول: في صفة طبائع الجوارح الضواري وأمزجتها وامتحانها عند ابتياعها، والثاني في ذكر أسباب أمراضها وعلامات كل مرض، والثالث: في صفة مداواتها وعلاج أمراضها وتدبير أدويتها، والرابع: في تدبير قرنصتها وعلامات موتها وهلاكها.

ويتضح من هذا العرض المنهجي لموضوعات علم البيزرة، الذي أوضح جوانبه وأركانه “البلدي” أن ثمة علاقة وثيقة بين هذا العلم وبين علوم أخرى يأتي على رأسها علم البيطرة؛ فقد اهتم البلدي بالبحث في طب الطيور الجارحة، وسجّل ملاحظات قيِّمة عن أنواع الطفيليات التي تُصيبها، منها قوله عن الديدان في دُبر الطائر: “علامات الدود إذا كان في دُبر الجارح، أن تراه يحك دُبره دائمًا وذرقه متصلاً على حاله لا خضرة فيه بل متغير الشكل الطبيعي، وربما خرج من ذرقه دود”. ثم نراه يهتم بأنواع الحشرات التي تُصيب الطيور الجارحة، فيتحدث عن القمل بقوله: “القمل قملان: صغار وكبار، والصغار أشدها على الجارح مضرة وأذية له من الكبار؛ لأن الصغار تُذيبه وتنهكه وتُسقم جسمه، وتمنعه من الأكل والنوم للصوقها بجلده، والكبار تسعى في بدنه، وتنتقل من مكان إلى مكان فيجد لذلك راحة، والقمل الكبار يأكل القمل الصغار، والقمل يُنشِّف رطوبة الطير حتى يتركه جلدًا وعظمًا إن لم يُعالج” .

وتتجلى ثقافة عبد الرحمن بن البلدي العمليَّة في مواطن كثيرة من كتابه، فهو يخبرنا مثلاً عن أفضل لون في الجوارح حسب خبرته الطويلة فيقول: “وعندي أن الأصفر من البزاة ومن الشواهين ومن الصقور ومن البواشيق ومن اليوايئ أصيد الألوان كلها بالتجربة”. وهو حين يتحدث عن تخيُّطِ عيني الجارح فإنه يشرح كيفية ذلك، ثم يحذِّر من أن الخطأ قد يُذهِب بعيني الجارح ويضيف: “فقد رأيت أعين جوارح كثيرة هلكت بذلك السبب”.

وأما ثقافته النظرية فقد اعتمد فيها على مصدرين: شهادات سماعية، وأخرى منقولة عن مؤلفات سابقة في البيزرة؛ فقد روى سماعًا عن عدد من معاصريه من المشتغلين بهذا الفن أمثال غنيم العمادي ويوسف البازيار، وله من البازيار الفرنجي موقفان، فهو يقول مرة: “سمعت البازيار الفرنجي يقول…”. ويقول في مواطن كثيرة أخرى: “وقال البازيار الفرنجي…”. وقد يعني هذا أنه في حال السّماع كان ينقل رأي بازيار بعينه، وفي حال “قال البازيار…” كان ينقل عن كتاب تتمثل فيه خلاصة تجربة الفرنجة لمؤلف معيَّن أو لغير مؤلف واحد، ولما كان كتاب الكافي متأخرًا نسبيًّا من الناحية الزمنية فهو يعتمد على تراثٍ واسع قد سبقه في البيزرة، ويردِّد حتى الجوانب الأسطورية من ذلك التراث. وأما المصادر التي اعتمد عليها صاحب الكافي فهي تصدر دائمًا باسم مؤلِّف الكتاب -دون تعيين لاسم الكتاب نفسه- أمثال: أدهم بن محرز الباهلي، والغطريف بن قدامة الغساني، ومهدي بن أَصْرَم صاحبُ كتاب الصيد، ومحمد بن عمر البازيار المعروف بعرجة، وعبد الله بن يوسف البازيار الأصفهاني، والبازيار الفرنجي، ويعقوب بن إسحاق الكندي، وغيرهم .

وممن كان له إسهامه الواضح في هذا العلم، نجدُ الغطريف بن قدامة الغساني في كتابه (ضواري الطير) الذي عني فيه بطب الطيور الجارحة؛ فقد سجل مجموعة من الملاحظات الدقيقة التي تُدلِّل على عمق معرفته بهذا العلم، وطول خبرته في هذا المجال، منها قوله عن ديدان الحوصلة: “إذا رأيت الطائر قد ألقى ريمجه فكان له الدود، فاعلمْ أن في حوصلته دودًا”. وكذلك قوله عن الديدان المعويَّة: “إذا رأيتَ الطير قد ورم ما فوق كتفيه، فاعلم أن في بطنه ديدانًا عِراضًا مثل حَبِّ القَرْع (الديدان الشريطية) التي تكون في الصبيان”. وقوله أيضًا: “أن ترى الطير ينتف ريش مَرَاقِّه، أو ينتف ريش فخذيه، فذلك يدل على العِراض، أمثال دود الخل يعرض للصبيان في بطنه” .

وهذه الملاحظات القيِّمة من الغطريف تُدلل على استخدام المسلمين للتجربة والاستقراء ثم التوصُّل إلى أفضل النتائج في المجالات العمليَّة والتطبيقيَّة؛ وأما تدرُّج المسلمين من الاستمتاع بالبيزرة باعتبارها مجرد هواية في أول الأمر، ثم وضع القواعد والأصول المنهجية لتلك الهواية ثم الارتقاء بها حتى جعلوها علمًا متفردًا، فكل ذلك مما يُدلل على ابتكار المسلمين لعلم البيزرة، وأسبقيتهم قبل غيرهم من الأمم والشعوب الأخرى في هذا العلم؛ لذلك وجدنا أن عددًا من الكتب التراثية المعنيَّة بعلم البيزرة قد تُرجم في عصر النهضة الأوربية الحديثة إلى اللغة اللاتينية، ثم انتشرت هذه الترجمات بعد ذلك في مختلف بلدان أوربا، وانتشرت معها رياضة الصيد بواسطة الصقر.

المصدر: كتاب (قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية) للدكتور راغب السرجاني.

[/size][/center]