الحكم المستنصر ودور العلم في حياته .. د/ راغب السرجاني

[CENTER][SIZE=“3”]

كان لنشأة الحكم المستنصر العلمية، على يد والده عبد الرحمن الناصر، أثرٌ بالغٌ في تشكيل وعيه العلمي المبكر، فقد درس على أيدي نخبة من كبار علماء عصره، منهم “محمد القرطبي”، الذي درس عليه علوم اللغة والحساب، والأدب والنحو، وأفاد منه دراسة العلوم بطريقة تحليلية عميقة، كما درس علوم الدين على يد العلامة “ابن أصبغ”، وأخذ علوم التاريخ عن “علي الرعيني”، فكان لكل هؤلاء العلماء وغيرهم أعمق الأثر في تكوين شخصية الحكم العلمية[1].

وقد نتج عن إقبال الحكم على دراسة العلوم والآداب، ومجالسته للعلماء أن أصبح شغوفًا بالعلم وتحصيله، مما كوَّن لديه شخصية علمية فذَّة، جعلت المؤرخين والعلماء يشيدون به، ويعتدُّون بآرائه، ومن الأمثلة على أن أقوال “الحكم” كانت حُجَّة لدى العلماء ما أشار إليه “الحميدي” عند ترجمته لابن عبد ربه، إذ قال: “هذا آخر ما رأيت بخط الحكم المستنصر - وخطه حجة عند أهل العلم -؛ لأنه كان عالمًا ثبتًا”[2].

ولا شك أنه إذا كان الخليفة “عالمًا ثبتًا”؛ فإن العصر سيكون عصر العلم والعلماء، والرقي والازدهار للأندلس على نحو ما رأينا!!، وهكذا قدم المستنصر إلى الحركة العلمية في الأندلس دفعة كبرى من النشاط، بل إنه أسهم فيها إسهامًا ماديًّا، بأن وضع كتابًا في (أنساب الطالبيين والعلويين القادمين إلى المغرب)، وذلك لسعة معرفته بالتاريخ والأنساب[3].

وكان لغلبة النشاط العلمي في عهد الحكم المستنصر أثر في ذهاب بعض المستشرقين إلى القول بأن “انصراف الحكم إلى العلم واهتمامه بالكتب والعناية بها، قد أدَّى إلى عدم تطلعه للغزو والجهاد…”[4] وهذا الأمر غير صحيح على إطلاقه، فلم يكن خلفاء المسلمين وعلماؤهم ليهتموا بجانب على حساب جانب آخر، ولو أمعنّا النظر في سيرة الحَكَم، لوجدناه قد اهتمَّ - إلى جانب اهتمامه بالعلم - بالجهاد والغزو، وهذا ما يثبته المؤرِّخون، فيذكر الحميدي أنه “واصل غزو الروم، ومن خالفه من المحاربين”[5]، ويؤكِّد ابن الخطيب أنه كان “ذا همة عالية في الجهاد، جعلت ملوك عصره يهادنونه ويسالمونه، لقوته وبأسه”[6]، هذا كله بالإضافة إلى أن عصر الحكم كان عصر سلام نسبي مع ممالك النصارى، واستقرار لشتى مناطق الأندلس، وذلك بعد جهود أبيه (الناصر) وما عقده من معاهدات صلح مع ملوك النصارى.

وقد اتبع الحكم وسائل عديدة لنشر العلم في البلاد فمنها:
1ـ العناية بالعلوم وتشجيع العلماء على البحث والتأليف: فقد سعى إلى تقريب أولي العلم والمعرفة وإكرامهم، وتهيئة المناخ الملائم الذي يمكِّنهم من الانصراف إلى العلم والبحث العلمي، وبالتالي فقد يسَّر السبل أمام إنتاجهم الفكري حسب تخصص كل منهم، وفي هذا يقول الإشبيلي: “وفي أيامه كثُرَ العلماء وأدلوا بما عندهم، وأُلِّفت التواليف، وصُنِّفَت التصانيف”[7].

ولذلك لا غرابة أن نجد في عصره كثيرًا من العلماء المبرَّزين في شتى ميادين العلم، فبرز في علوم الدين: الليثي، والثغري، وابن الفخار، وغيرهم، وفي ميدان الأدب واللغة برز أبو علي القالي، وابن الصفّار، وغيرهما، وفي الطب: أحمد الحرّاني، والزَّهراوي،، وفي الرياضيات والفلك والجغرافيا برع المجريطي، وابن السمح وغيرهم من العلماء الذين أسهموا في ازدهار العلوم والآداب بما أضافوه من أنواع الإنتاج العلمي القيم.

2 ـ اهتم الحكم اهتمامًا بالغًا بالكتب، وسار على نهج والده في ذلك، في الحرص على جمع كل المؤلَّفات في مكان واحد، ذلك أنه رأى أنَّه لن يتم النشاط العلمي إلا بتوافر المؤلفات في شتى المجالات، وحتى يتمكن المشتغلون بالعلم وطلاب العلم على السواء من تحصيله بأيسر الطرق.

3ـ توفير المكان المناسب لطلبة العلم… تمثَّل ذلك في مكتبة “قرطبة” التي تحوَّلت إلى ما يشبه الجامعة بمفهومنا المعاصر، لأنها كانت بحق (دار العلوم)[8]، حيث كانت تستقبل أفواجًا من الكتب، التي كان المستنصر قد أوصى بها أعوانه المنتشرين في كل مكان من العالم الإسلامي يومئِذٍ، وهكذا رسم المستنصر خطة لإنشاء مكتبة عامرة تكون عونًا لطلاب العلم، ومرجعًا أساسيًا لكل من أراد الاستزادة، فقد ورث عن أبيه ثروة طيبة من الكتب كانت النواة والأساس لمكتبة قرطبة العظيمة، التي نمّاها الحكم، وأمدَّها بذخائر نفيسة من التآليف العلمية، حتى أصبحت في صورة فريدة لم يجمع مثلها أيُّ خليفة في الإسلام، وبلغ من ضخامة محتويات تلك المكتبة أن اشتُهِرَ أمرُها في الأوساط العلمية في العالم الإسلامي، حتى أصبحت مثلاً بارزًا على الازدهار العلمي والنشاط الفكري، وغدت من أعظم خزائن الكتب في الإسلام[9].

يذكر ابن الأبار في حديثه عن الحكم أنه: “كان حسن السيرة فاضلاً عادلاً مشغوفًا بالعلوم، حريصًا على اقتناء دواوينها، يبعث فيها إلى الأقطار والبلدان، ويبذل في أعلاقها ودفاترها أنفس الأثمان، ونفق ذلك لديه، فحُمِلَت من كل جهة إليه، والمُلْكُ سوق، ما نفق فيها جُلِبَ إليها، حتى غصَّت بها بيوته، وضاقت عنها خزائنه”[10].

قال ابن حيان عند ذكر الحَكَم: “كان من أهل الدين والعلم، راغبًا في جمع العلوم الشرعية من الفقه والحديث وفنون العلم، باحثًا عن الأنساب، حريصًا على تأليف قبائل العرب وإلحاق من درس نسبه أو جهله بقبيلته التي هو منها، مستجلبًا للعلماء ورواة الحديث من جميع الآفاق، يشاهد مجالس العلماء ويسمع منهم ويروي عنهم”[11].

ولم يُسمَعْ في الإسلام بخليفة بلغ مبلغ الحكم في اقتناء الكتب والدواوين وإيثارها والاهتمام بها، فلقد أفاء على العلم، ونوَّه بأهله ورغَّب الناسَ في طلبه، ووصلت عطاياه وصِلاته إلى فقهاء الأمصار النائية عنه، ومنهم أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان بمصر، وأبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب الكِنْدِي وغيرهما؛ جرى ذِكْرُ هذا في كتب تواريخهم.

وكان له ورَّاقون بأقطار البلاد ينتخبون له غرائب التواليف، ورجال يوجههم إلى الآفاق عنها. ومن وَرَّاقيه ببغداد محمد بن طرخان، ومن أهل المشرق والأندلس جماعة، وكان مع هذا كثير الاهتمام بكتبه والتصحيح لها والمطالعة لفوائدها، وقلَّما تجد له كتابًا كان في خزانته إلا وله فيه قراءة ونظر من أي فن كان من فنون العلم: يقرؤه ويكتب فيه بخطه - إما في أوله أو آخره أو في تضاعيفه - نسب المؤلف ومولده ووفاته والتعريف به، ويذكر أنساب الرواة له، ويأتي من ذلك بغرائب لا تكاد توجد إلا عنده، لكثرة مطالعته وعنايته بهذا الفن. وكان موثوقًا به مأمونًا عليه. صار كل ما كتبه حُجَّة عند شيوخ الأندلسيين وأئمتهم، ينقلونه من خطه ويحاضرون به"[12].

وقال أبو محمد بن حزم في كتاب جمهرة الأنساب من تأليفه، وذكر الحكم: “اتصلت ولايته خمسة عشر عامًا في هدوء وعلو. وكان رفيقًا بالرعية، محبًا في العلم، ملأ الأندلس بجميع كتب العلوم. وأخبرني تليد الفتى - وكان على خزانة العلوم بقصر بني مروان بالأندلس - أن عدد الفهارس التي كانت فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة، في كل فهرسة خمسون ورقة، ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين فقط”[13].

فإذا كان هذا الحال مع الدواوين (تتجاوز الألفي ديوان) فما بالنا بمصنفات العلم وكتب المعرفة الأخرى، التي ولا شك ستكون أعظم وأكثر عددًا!! بالإضافة إلى أن تلك المقولة تشير إلى ما امتازت به تلك المكتبة من تنظيم، إذ إنَّ مواد المكتبة مرتبة تبعًا لمواضيعها، ولكل موضوع فهرسه الخاص، وهي ما يعرف بالفهرسة الموضوعية الموجودة في مكتبات اليوم.

وذكر المقَّرِي عند حديثه عن مكتبة المستنصر: “أنه جمع من الكتب مالا يحد ولا يوصف كثرةً ونفاسة، حتى قيل: إنها كانت أربعمائة ألف مجلد، وأنهم لما نقلوها أقاموا ستة أشهر في نقلها”[14].
وقد أشار إلى هذا العدد الهائل من الكتب الكثير من الكتاب المحدثين ممكن كتبوا عن هذا الخليفة وتحدثوا عن سيرته العلمية، بل إن المستشرقة الألمانية “زيجريد هونكه” تشير إلى أن تلك المكتبة ضمت نصف مليون كتابٍ[15].

وهكذا أسهمت هذه المكتبة، وذلك الاهتمام البالغ بالعلم والعلماء في نهضة غير مسبوقة للأندلس، غدت دليلاً واضحًا على مدى ما حققه الحكم المستنصر للحركة العلمية من جهود، وما حققه الأندلسيون في ميدان العلم، جعلتهم يصفون قصر الحكم بأنه “مصنع لا يُرَى فيه إلا النَّسَّاخون والمجلِّدون والمزخرِفون يُحَلُّون الكتب بالمنمنمات والرسوم الجميلة”[16].

والجدير بالذكر أنَّ الورّاقين قد نالوا من وراء علمهم هذا منزلةً رفيعةً في المجتمع، كما أنهم بلغوا درجةً طيبةً من الثَّراء، كل ذلك من اهتمام الخليفة بالعلم، والعلماء والكتب.

ولأهمية النسخ في النشاط العلمي باعتباره وسيلة من وسائل حفظ العلوم وصيانتها من الضياع، ونشرها بين الناس، فقد اهتم الخلفاء باستقدام أمهر الكتاب، وأشدهم عنايةً بالعلم من أجل ذلك، بل وتذكر صاحبة كتاب (فن التجليد عند المسلمين)[17] إلى أن ذلك الاهتمام تعدَّى إلى المجلِّدين المختصين بالشكل الخارجي للكتاب وتجليده، وإخراجه في أحسن صوره.

جهودالمستنصر في نشر التعليم:
يضاف إلى ذلك جهود الخليفة المستنصر في رفع شأن التعليم في بلاده، وتيسيره لرعيته، فيذكر ابن عذاري أنه: “أمر بإنشاء سبعٍ وعشرين مكتبةً يُلحَق ثلاثٌ منها بالمسجد الجامع بقرطبة، والباقي فرَّقه على أنحاء قُرطُبة، وعيَّن فيها العلماء والفقهاء للقيام بتدريس النشء في تلك المكتبات، وأجرى عليهم المرتبات، وأغدق عليهم الصلات، وبالَغَ في تعليم أطفال المسلمين”[18].

ولم يقتصر الخليفة الحكم على ما تقدَّم، بل كان يسعى للأفضل في سبيل الترقي بالمستوى العلمي لرعيته، فقد أنشأ “حوانيت خاصة” بقرطبة لتعليم أولاد الضعفاء والفقراء؛ مما يدل على أن الحكم قد أتاح الفرصة لجميع أفراد المجتمع في الاستفادة مما هيأه لهم من سبل اكتساب العلم والمعرفة، فلم يعد العلم مقصورا على ذوي المقدرة المادية من الناس، بل غدت فرص التعليم متاحة لكل من يريد.

الحكم وعلماء الشرع:
ولم يقتصر اهتمام الحكم على حدِّ نشر العلم والمعرفة، والاهتمام بالعلوم الحياتية فحسب، بل كان - كما ذكرنا - يحمل كل الإجلال والإكبار لعلماء الشرع، ويوقِّرهم، ويستشيرهم في كل أموره، من ذلك أنه أراد أن يقطع شجرة العنب من الأندلس، في محاولة منه للقضاء على الخمور، فاستشار الفقهاء في ذلك، فذكروا له أنها قد تُصنَع من غيرها (أي الخمور)، فكَفَّ عن ذلك[19]، وفي ذلك إشارة دالَّة إلى مكانة هؤلاء العلماء، وما وصلوا إليه وما بلغوه من احترام وتعظيم.

كما كان حريصًا على تعليم ابنه “هشام المؤيَّد” على يد كبار علماء الفقه في الأندلس، وهو “يحيى الليثي”، الذي كان مجلسه من أشهر المجالس العلمية في قرطبة، وكان يتوافد عليه الطلاب من شتّى أقطار الأندلس لينهلوا من علمه، ومن بينهم ابن الخليفة، يجلس مع طلبة العلم، كواحد منهم، وقد حمل في نفسه ما ربّاه عليه والده، من إجلالٍ وإكبارٍ للعلم والعلماء[20].

ولما نبغ الفقيه “عبد الله بن القاسم الثغري”، وحصَّل العلم من أقطار المشرق والمغرب، حتى شبهه أصحابه بسفيان الثوري، لم يكن من الخليفة المستنصر إلا أن ولاّه القضاء على بلاده، تقديرًا لدوره، وعلمه، بالإضافة إلى أنه كان يشجع العلماء على البحث والدرس، فهو الذي جعل الفقيه “محمد بن الحارث الخشني” يؤلِّف عددًا من الكتب يذكر ابن الفرضي أنها بلغت ألف كتاب[21].

ولم يكن “الخشني” وحده من حَظِيَ بتأييد الخليفة، وتشجيعه، بل كان إلى جانبه عدد كبير من العلماء والفقهاء، منهم: “أبو بكر محمد بن يحيى” الذي أظهر اهتمامًا كبيرًا بالدراسات الفقهية، وألَّف كتبًا كثيرة في ذلك، منها كتاب خاص عن “فقه التابعين”، ولمعرفته الواسعة بالفقه وأحكام الشريعة، ولاّه الخليفةُ القضاءَ، وأجزل له العطاء[22].

كما يذكر ابن الفرضي (في تاريخ علماء الأندلس) أن “محمد بن عبد الله بن سيد” نال منزلة سامية لدى الخليفة الحكم، وبتشجيع منه كتب له كتاب (المستخرجة) وهو كتاب فقهي في الفقه المالكي[23].

ومن علماء الحديث الذين قرَّبهم “الحكم” كان (قاسم بن أصبغ البياني) :، الذي يُعَدُّ من كبار حفّاظ الحديث في زمانه، ومن ألمع مَنْ أخرجته الأندلس في هذا الميدان، رحل إلى المشرق فأخذ العلم من “القيروان ومصر وبغداد والمدينة” ثم عاد إلى الأندلس، فتهافت عليه طلاب العلم من كل مكان، وأُعجِبَ “المستنصر” بجهوده، فقرَّبه منه، بل وأمره بتأليف كتابٍ في الحديث، فصنَّف كتابًا في السنن المسندة فيه 2494 حديثًا[24].

كما شجَّع المستنصر المحدث “يعيش بن سعيد الوراق” على تأليف كتاب في الحديث سماه (مسند ابن الأحمر) نسبة إلى “محمد بن معاوية القرشي”[25]، ولا شك أن في اهتمام المستنصر بإخراج مصنف في حديث (ابن الأحمر) ما يدل على مكانته العلمية، وما يتمتع به من منزلة علمية كبيرة بين أهل الحديث، ويدلنا كذلك على إحاطة الخليفة بكبار أهل الحديث في عصره، وإنزالهم منازلهم[26].
وكان لابن الأحمر إسهام في حركة الإنتاج العلمي المتصل بالحديث، فقد ألَّف مسندًا في الحديث فيه أربعة آلاف وثلاثون حديثًا.

وكذلك ما فعله الحكم (وقت أن كان وليًا للعهد) من اهتمام بمحمد بن مفرح القرطبي، الذي كان قد رحل للمشرق في طلب العلم، فلمّا عاد للأندلس، أرسل في طلبه، وأكرمه، ورفع مكانته بين علماء الحديث، فصنَّف له مؤلفات عديدة في مختلف ضروب المعرفة[27].

وكان من متابعاته للعلماء، أن تابع النشاط العلمي للعلامة المقَّرِي “عبد الملك البجاني”، الذي رحل للمشرق، وأخذ عن علمائه، ثم عاد إلى الأندلس ومعه كتاب “الوقف والابتداء” عن نافع برواية ورش، وما إن علم الخليفة بذلك حتى بعث في إحضاره، وقرَّبه من مجلسه، وأفاد من علمه[28].

كما اهتم المستنصر بتخصيص جانب من دار الملك (قصر الخلافة) لتكون مركزًا للبحوث والدراسات (كما نطلق عليها اليوم)، يجتمع فيها العلماء والباحثون للبحث والدراسة والتأليف، من هذه الاجتماعات ما يذكره الحميدي في (جذوة المقتبس): “دعا الحكم المستنصر بعض علماء اللغة :محمد بن أبي الحسين، وأبو علي القالي، وابن سيده؛ وذلك لمقابلة كتاب “العين” للخليل بن أحمد، وأحضر لهم نسخًا كثيرة من هذا الكتاب، وانصرف هؤلاء العلماء إلى دارسة تلك النسخ، ومعرفة وجوه الاختلاف بينها”[29]، وهو عمل يُذكِّرنا بما يقوم به المحقِّقون لكتب التراث هذه الأيام، ويدلُّنا على عقلية الحكم المستنصر العلمية، وحرصه على التحقق من كتبه، وعنايته الفائقة بها.

كذلك يذكر ابن حبان في المقتبس، أنه : اهتم بجهود (الزبيدي)[30] في علم اللغة، وخلع عليه “خلعة سنية” بعد تصفحه لكتابه في اختصار كتاب “العين”، بل إن الزبيدي يذكر في تأليفه لكتاب (طبقات النحويين ) (الذي ضمَّنه أشهر النحاة في المشرق والأندلس) يذكر أنه اتبع في تأليف هذا الكتاب منهجًا علميًا أملاه عليه الخليفة المستنصر؛ يقول: “ألَّفتُ هذا الكتاب على الوجه الذي أمرني به (أي الخليفة المستنصر)، وأقمته على الشكل الذي حدَّه… بعنايته وعلمه، وأوسعني من روايته وحفظه، إذ هو البحر لا تُعبَر أواذيه، ولا تُدرَك سواحلُه…”[31].

وهو بذلك يشير أيضًا إلى سعة علم المستنصر، ومدى اهتمامه بالتأليف، وإدراكه لحاجة الناس لكتابة مثل هذا الكتاب، في طبقات النحويين.

تقديرالمستنصر لعلماء الحياة:
وإذا كان هذا هو الحال مع علماء الشرع، فإن الحال لم يختلف كثيرًا مع علماء الحياة، الذين اهتم بهم المستنصر اهتمامًا بالغًا، وأجزل لهم العطاء، بل يذكر أنه استحدث نظامًا جديدًا للأطباء المشتغلين بخدمة الخلفاء، فقد أنشأ ديوانًا يضم أولئك الأطباء، وينزلهم درجاتٍ متفاوتةً حسب قدرهم وكفاءتهم، فمنهم “أحمد بن حفصون” الذي اشتغل بخدمة الخليفة المستنصر، ونال مكانة عالية بين أطباء البلاط. ولحق بخدمة الخليفة كذلك “أبو بكر أحمد بن جابر”، وكان كبير المنزلة عند الخلفاء مُعظَّمًا لديهم، وكذا الطبيب “أبو عبد الملك الثقفي” الذي جمع بين المهارة في الطب والبراعة في الهندسة، وكان عالي المقام عند المستنصر[32].

وكان المستنصر على عادته في تقديرهم وتشجيعهم على تأليف الكتب المهمة، كلّ في مجاله:
فمن العلماء الذين حظوا بعناية المستنصر في مجال الطب (عريب بن سعد القرطبي) وهو مؤرخٌ طبيب، حظي بمكانة عالية عنده، جعلته يُهدي عمدة كتبه، وأجلَّها في هذا المجال للخليفة المستنصر، يقول في مقدمة كتابه (خلق الجنين وتدبير الحبالى والمولود): “وإنَّ أحق ما طرقت الهمم إليه، واستعملت الأفكار فيه بعد حقوق الله تعالى، واستيفاء حدود شكره طلب الزلفى إلى الإمام الحكم المستنصر… ولما رأيت أنَّ أحظى الأعمال المقربة من رأيه - أيَّده الله - وأقرب الوسائل إليه، وأزكاها لديه تأليف كتب العلم، وجمع منثور الحكم، وتجديد آثار الذين سبقوا إلى فضيلة… تكلَّفت كتابًا يشتمل على أقاويل العلماء في ابتداء خلق الله تعالى الإنسان…”[33].

وفي ميدان طب العيون برع الأخوان أحمد وعمر ابنا يونس الحراني في عصر الناصر والمستنصر، حيث رحلا إلى المشرق ودرسا الطب على يد ثابت بن سنان وغيره، ثم عادا للأندلس، فأحسن المستنصر استقبالهما، ورفع مكانتهما بين علماء الطب… وكان أن تُوُفِّي عمر، وبرع أخوه أحمد من بعده في الطب، فسمح له الخليفة المستنصر بإقامة خزانة طبية بالقصر رتَّب فيها 12 صبيًّا لصناعة الأدوية، ولم يكن يبخل بشيء من العلاج للفقراء والمساكين الذين كانوا يترددون على هذه الخزانة (كأنها الصيدلية في أيامنا)[34].

كذلك ازدهر علم الفلك في عهد الخليفة المستنصر، فقد أولاه رعايته وأحاطه بتشجيعه، واستجلب من مصر والعراق أهم الكتب الأساسية فيه، قديمها وحديثها، مما أدَّى إلى نبوغ الكثير من الفلكيين الذين تخصصوا في مراقبة حركات النجوم واستخدام آلات المرصد، وأثبتوا نبوغهم وعبقريتهم في ذلك المجال بما قاموا به من تصحيح وتحسين للجداول الفلكية، وتقويم نتائج من سبقهم. كما كان له أثره البالغ في ازدهار الدراسات الرياضية، والبحث في مواضيعها المختلفة، إذ يُروَى عنه أنه كان يقدر العلاّمة (عبد الله السري) المعروف ببراعته في الحساب والهندسة، وألَّف كتابًا مشهورًا في (البيع)، وعلى الرغم من حرص المستنصر على تقريبه منه للاستفادة من علمه، إلا أنه كان حريصُا على الزهد والبعد عن مجالس الأمراء، إلا في حاجة[35].

وتذكر المستشرقة زيجريد هونكه أن الحكم لم يكن - إلى ذلك كله - يقتصر في أخذ علوم الحياة عن العلماء المسلمين، بل كان من العلماء المقربين إلى مجلسه علماء نصارى، يقدرهم ويرفع من قدرهم لما لديهم من علم، كان أبرزهم (الأسقف القرطبي ابن زيد) الذي نال مكانة رفيعة لدى الحكم المستنصر، وصنَّف له كتابًا في الفلك أسماه (تفصيل الأزمان ومصالح الأبدان) ذكر فيه منازل القمر، وما يتعلَّق بذلك مما يستحسن مقصده وتقريبه…"[36].

وهكذا كان اهتمام الخلفاء في الأندلس بالعلم، وبالكتب، وبالعلماء، لم يقتصر على حدِّ التحفيز والتشجيع، بل شمل شتى جوانب النهضة العلمية، وتيسيرها على طلبة العلم، ووصل إلى حدِّ الأمر بكتابة المؤلفات، والمكافأة على إنجازها، بل ووضع الخطط العملية، والخطوات المنهجية للباحث والعالم حتى يؤلِّف مؤلَّفاته، التي عُدَّتْ بحقٍّ ذُخرًا للإسلام والمسلمين، وخيرَ دليل على اهتمام هؤلاء الخلفاء رحمهم الله بنهضة أمتهم على أساس قوي من العلم، فلا عجب بعد ذلك أن نرى في الأندلس علماء نوابغ، أناروا العالم كله من مغربه إلى مشرقه، وبنوا في الأندلس حضارةً أضاءت الشرق والغرب، وبقيت حتى يومنا هذا مثالاً يُحتَذَى، ودليلاً راسخًا على أن العلم سبيل للنهضة والرقي والرفعة.


[1] المقَّرِي: نفح الطيب 1 /395.
[2] الحميدي: جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس ص101.
[3] المقَّري: نفح الطيب 3 /60.
[4] لين بول: قصة العربي في أسبانيا، ترجمة علي الجارم ص141.
[5] الحميدي: جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس 6.
[6] لسان الدين بن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة 1 / 478.
[7] الإشبيلي: ريحان الألباب مخطوطة.
[8] انظـر الفصل الخاص بقرطبة ص342 من هذا الكتاب.
[9] القلقشندي: صبح الأعشى 1/466.
[10] ابن الأبار: الحلة السيراء 1 /201.
[11] الحميدي: جذوة المقتبس 2 /125.
[12] الحميدي: جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس 2 /125.
[13] ابن حزم: جمهرة أنساب العرب 1 /44.
[14] المقري: نفح الطيب 1/ 395.
[15] زيجريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب 353.
[16] إنجل جونثالث بالنثيا: تاريخ الفكر الأندلسي (ترجمة: حسين مؤنس) 10.
[17] اعتماد القصيري: فن التجليد عند المسلمين ص 30.
[18] ابن عذاري: البيان المغرب 2/240.
[19] المقري: نفح الطيب 1 / 395.
[20] الحميدي: جذوة المقتبس 98.
[21] ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس 190.
[22] ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس 191.
[23] السابق 192.
[24] المقري: نفح الطيب 3/ 169.
[25] وهو غير سعيد بن الأحمر، ذكره الذهبي في تاريخه بأنه محدث الأندلس ومسندها الثقة، وكان الوراق من أروى الناس عنه، وانظر سير أعلام النبلاء 16/ 68.
[26] انظر سيرة ابن الأحمر المحدث في: جذوة المقتبس للحميدي ـ 386، وتاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي، وابن خير الإشبيلي في الفهرسة.
[27] ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس 2/91 وما بعدها.
[28] المراكشي: الذيل والتكملة لكتاب الصلة 5/13.
[29] انظر: الحميدي: جذوة المقتبس ص50 وما بعدها.
[30] العالم اللغوي الأندلسي الكبير، وصاحب معجم (تاج العروس)، وله العديد من المؤلفات الثرية.
[31] الزبيدي: طبقات النحويين 231.
[32] ابن جلجل: طبقات الأطباء 111.
[33] عريب بن سعيد: خلق الجنين (مخطوطة) ورقة 85ب.
[34] ابن جلجل: طبقات الأطباء: 113.
[35] القفطي: أخبار الحكماء ص 243.
[36] شمس العرب تسطع على الغرب: زيجريد هونكه ص501.

[/size][/center]

كم انت راق بطرحك
لاعدمنااك يالغلا