أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله

[SIZE=5][COLOR=Blue][FONT=Microsoft Sans Serif]هذا نموذجٌ للنفس حين تتحسَّر وتلوم نفسها، لماذا أوصلتَ نفسك إلى هذا الموقف، طلبنا منك أنْ تنيبَ إلى الله، وأنْ تسلمَ له في أحكامه، وأن تتبع أحسن ما أُنزل إليك لترفع عن نفسك الحرج وتُجنِّبها اللوم، ولا تقف هذا الموقف لكنك لم تستجب.

كلمة { يٰحَسْرَتَا } [الزمر: 56] هذا أسلوب نداء، فأيُّ شيء ينادي العبد؟ ينادي الحسرة والحزن والأسى يقول: يا حسرتي احضري تعالَيْ، فهذا أوانك، يتحسَّر على نفسه بعد أن فاتته الفرصة، ومعلوم في النداء أنه لا ينادي إلا النافع لكن الموقف هنا موقف تحسُّر وندم، والحسرة هنا مضافة لياء المتكلم والألف للإطلاق.

ومعنى { عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ } [الزمر: 56] على ما قصَّرت في حق الله وفي طاعته، والتفريط هو إهمال ما يجب أنْ يتقدم، لأن الفرصة إنْ فاتت لا تُعوَّض، كالتلميذ الذي يهمل دروسه ونراه يهتم مثلاً ليلة الامتحان. نقول له: يا بني (قبل الرِّماء تُملأ الكنائن) هذا مَثَلٌ يُضرب لمن لا يستعد للأمر قبل أوانه، فالصياد يخرج للصيد وقد أعدَّ له أدواته، حتى إذا ما وجد صيده بادره قبل أنْ يهرب، لأن الغزالة مثلاً لا تنتظر الصياد حتى يملأ كنانته أو يُعدّ سهمه.

إذن: أنت تتحسَّر على نفسك وتلومها، لأنك لم تستغل الفرصة وأهملتَ حتى فاتتك وهي لا تُعوَّض، فليس أمامك إذن إلا التحسُّر وعضّ أصابع الندم، فكأن الأمرين اللذين سبقا هذه الآية وهما:
{ وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ… } [الزمر: 54]

{ وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ… } [الزمر: 55]
كان ينبغي العمل بهما ليحموا أنفسهم من أنْ يقولوا ساعةَ يرون العذاب { يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ } [الزمر: 56] فرحمته تعالى ورفقه بعباده لا يحب منهم أنْ يقولوا هذه الكلمة، فالله لا يريد لعبده أنْ يقف موقف التحسُّر، ولا يرضى له ذلك، فحين يقول لنا: لا تقنطوا من رحمة الله، وأنيبوا، وأسلموا، وابتغوا أحسن ما أنزل إليكم يريد أن ينبه الغافل ويحذر مَنْ يفكر في الكفر ويُذكِّره بالعواقب، وبما سيكون منه حين يرى العذاب من حسرة.

والحسرة أسف وندم على خير فات لا يمكن تداركه، والكافر لا يتحسَّر حسرةً واحدة إنما حسرات كثيرة ملازمة له، فكلما رأى العذاب الذي ينزل به تحسَّر، وكلما رأى المؤمنين في نعيم تحسَّر، وكلما تذكَّر دُنياه تحسَّر.

وقوله تعالى: { وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } [الزمر: 56] يعني: الأمر لم ينته عند حَدِّ التفريط والتقصير في جنب الله، إنما تعدَّاه إلى السخرية ممَّنْ يقفون في جنب الله، فالذنب مُضَاعف، وسبق أنْ ذكرنا نموذجاً من سخرية أهل الباطل بأهل الحق، واستهزائهم بهم في قوله تعالى من سورة المطففين:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [المطففين: 29-36].

وكثيراً ما نسمع أهل الباطل يسخرون من أهل الحق: يقولون فلان هذا صُللي، يا عم خذنا على جناحك… الخ لكن يكفي أهل الإيمان أن الله هو الذي سيأخذ لهم حقهم في دار البقاء, فإنْ سخروا منكم في الدنيا الفانية، فسوف تسخرون منهم في الباقية الدائمة، وإنْ ضحكوا منكم ضحكاً موقوتاً منقطعاً فسوف تضحكون منهم ضحكاً أزلياً باقياً.

وفي هذه الآية ملحظ { وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } [الزمر: 56] حين نتتبع كلمة النفس في القرآن الكرم نجد أنها تأتي دائما مؤنثة، كما في قوله تعالى:
{ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ } [يوسف: 53].

وقوله: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس: 7-8].


أما هنا فغلَّب التذكير، فقال حكاية عن النفس: { وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } [الزمر: 56]
[B] ولم يقل الساخرات، لماذا؟ قالوا: النفس مؤنثة، فإن أُريد بها الإنسان تُذكِّر.

وبعد أن حذرنا الحق سبحانه من موقف التحسُّر والندامة في الآخرة يحذرنا من شيء آخر تتعرض له النفس حين ترى العذاب، فيقول سبحانه: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ …. }[الزمر: 57].[/b][/font][/color][/size]