نصيحة العلماء للحكام: نماذج من النصح الفصيح الصريح

نصيحة العلماء للحكام: نماذج من النصح الفصيح الصريح د. محمد رفيع .المغرب[FONT=Arabic Transparent]في تاريخنا الإسلامي الطويل، أمثلة ناصعة خالدة للعلماء الصادعين بالنصح لأولي الأمر، الذين كانوا السند المتصل عبر الأجيال للنصيحة الفصيحة رغم جبروت العض وطغيان الجبر، نكتفي (1) بإيراد بعض النماذج من هؤلاء حسب التسلسل التاريخي:

أ- نصيحة الحكام زمن التابعين: طاوس اليماني نموذجا

ذكر الإمام الغزالي "أن هشام بن عبد الملك(2) قدم حاجا إلى مكة فلما دخلها قال: ائتوني برجل من الصحابة، فقيل: يا أمير المؤمنين قد تفانوا، فقال: من التابعين فأتي بطاوس اليماني، فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه، ولم يسلم عليه بإمرة المومنين، ولكن قال: السلام عليك يا هشام، ولم يكنه، وجلس بإزائه وقال: كيف أنت يا هشام؟ فغضب هشام غضبا شديدا حتى هم بقتله، قيل له أنت في حرم الله وحرم رسوله ولا يمكن ذلك، فقال: يا طاوس ما الذي حملك على ما صنعت، قال: وما الذي صنعت؟ فازداد غضبا وغيظا. قال: خلعت نعليك بحاشية بساطي، ولم تسلم علي بإمرة المومنين، ولم تكنني، وجلست بإزائي بغير إذني، وقلت: كيف أنت يا هشام؟

ترى كيف سيكون هذا العالم التابعي الذي رفض بموقفه هذا التاريخي الأصيل أن ينساق مع تيار التمويه وثقافة التزييف وطقوس التضليل.

قال الإمام طاوس: “أما ما فعلت من خلع نعلي بحاشية بساطك، فإني أخلعهما بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات، ولا يعاقبني، ولا يغضب علي، وأما قولك لم تسلم عليَّ بإمرة المومنين، فليس كل الناس راضين بإمرتك فكرهت أن أكذب، أما قولك لم تكنني، فإن الله سمى أنبياءه وأولياءه فقال: يا يحيى يا عيسى، وكنى أعداءه فقال تبت يدا أبي لهب، وأما قولك جلست بإزائي، فإني سمعت أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه يقول: (إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار، فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام). فقال له هشام: عظني، فقال: سمعت من أمير المومنين علي رضي الله عنه يقول: إن في جهنم حيات كالقلال، وعقارب كالبغال، تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته، ثم قام وهرب”(3).

هكذا استطاع هذا التابعي الجليل أن يقدم لهذا الملك نصيحة فصيحة، بموقفه أولا، ثم بمقاله ثانيا، موقف أغضب الملك لأنه جاء مناقضا تماما لما درج عليه ملوك العض من تقاليد الأبهة والتمجيد المزيفة والألقاب الفخرية المزورة.
ورغم محاولة القتل وإظهار الغضب، جاءت أجوبة التابعي الرباني الناصح الأمين لتفحم الملك الغارق في أوهام العض وتثبت له زيف وكذب ما كان يظن أنه الحق وتؤكد للجميع أصالة موقف طاوس ومشروعيته.

ب- نصيحة الأمراء زمن الأئمة المجتهدين: سفيان الثوري نموذجا

عن سفيان الثوري رضي الله عنه قال: “أدخلت على أبي جعفر المنصور بمنى، فقال لي: ارفع إلينا حاجتك، فقلت له: اتق الله فقد ملأت الأرض ظلما وجورا، قال فطأطأ رأسه، ثم رفعه، فقال: ارفع إلينا حاجتك، فقلت: إنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعا، فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم، فطأطأ رأسه، ثم رفعه فقال: ارفع إلينا حاجتك، فقلت: حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهما وأرى ههنا أموالا لا تطيق الجمال حملها، وخرج” (4).

قال الإمام الغزالي معلقا على هذه النماذج من العلماء الناصحين “فهكذا كانوا يدخلون على السلاطين إذا ألزموا، وكانوا يغررون بأرواحهم للانتقام لله من ظلمهم”(5).

ج- نصيحة الحكام عند علماء المغرب:

لم يخل بحمد الله بلدنا المغرب من أولي العزم من العلماء الناصحين الأمناء الذين كانوا الامتداد المتميز لمنهج الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين في نصح الأمراء.

والمميز لنصائح علمائنا المغاربة أنها اتخذت شكل الرسائل المفتوحة إلى ملوك المغرب وسلاطينه، واتسمت بالرؤية الشمولية للشأن المغربي في المعالجة وبالعمق في الدراسة والنقد والتحليل، الشيء الذي مكنها من الظهور في صورة مشاريع متكاملة تنتقد الواقع وتقترح البديل.

ومن بين هؤلاء العلماء الناصحين الذين ابتعثهم الله في بلدنا الحبيب المغرب في فترات متفاوتة لأداء وإحياء فريضة النصح للحكام، العالم الرباني الجليل الحسن اليوسي الذي وجه نصيحته للملك المولى إسماعيل في رسالة مفصلة ضمنها تحليلا اجتماعيا سياسيا أخلاقيا نقديا جريئا للوضع المغربي يومئذ، وذكر الملك بخطورة مسؤوليته عن ذلك أمام الله عز وجل، ودعاه للإذعان للحق والرجوع عن الغي (6).

وفي عهد السلطان عبد العزيز انبرى لنصحه الإمام المحدث أبو جعفر الكتاني الذي كتب له نصيحته في كتاب سماه: “نصيحة أهل الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها الخاص منهم والعام” اهتم فيه بتحليل الخلل والعطب الذي أصاب المجتمع الإسلامي وركز على أحد عشر خللا خطيرا عطل جهاز ومسيرة الدولة الإسلامية، مدعما ذلك بنصوص القرآن والسنة وأقوال العلماء والحكماء، وألح على تنديد الإسلام الشديد بالظلم والتسلط والإفساد، وذكر بكرامة المومنين، كما ذكر بالقانون الإلهي في تعامله مع الحكام إذا طغوا وفسدوا سلط عليهم العدو فكدر معيشتهم وأفسد عليهم عيشهم، وتجرأ عليهم بالإذلال وأخذ البلاد والأموال، وربما أدى ذلك عند تماديهم على الطغيان إلى استئصالهم واستيلاء العدو على جميع ما بأيديهم (7).

وقال المؤلف رحمه الله مبينا مقصود نصيحته: “وقد كتبت هذه النصيحة قاصدا بها جميع أهل الآفاق من كل المسلمين على الإطلاق، وخصوصا أهل مغربي، لكونهم جوار مكسبي… وقصدت أيضا إظهار العلم والخروج من الكتمان، وإبداء عدم الرضى بما حل في الزمان، والأداء لبعض ما يجب من الإنكار والتغيير والإنذار على حسب الطاقة والإمكان، وهل يلام إذا أدى بعض ما يجب عليه الإنسان؟” (8).

وهي النصيحة نفسها التي وجهها المؤلف مرة أخرى للسلطان عبد الحفيظ الذي أخذته العزة بالإثم فقتل ناصحه بعد أن جلده، فكتب الله الشهادة والمحمدة عند الله والناس للعالم الناصح، والخزي والخذلان للسلطان الجائر الذي استنصر العدو الكافر وسلم له المغرب وأمضى عقد الاستعمار. (9)

أما في عصرنا الراهن، فقد قيض الله لنا الداعية المجاهد الأستاذ عبد السلام ياسين ليكون الحلقة الأخيرة –وليست الآخرة- في سلسلة سند النصيحة لحكام أمة الشريعة.

فقد نهج، حفظه الله، نهج أسلافه العلماء الناصحين الفصحاء، فكتب نصيحته الأولى في رسالة مفتوحة إلى ملك المغرب الراحل الحسن الثاني، رحمه الله، سنة 1974م سماها “الإسلام أو الطوفان” حدث فيها منصوحه عن مظاهر الأزمة لمجتمعات المسلمين عامة وللمجتمع المغربي خاصة، مقترحا الحل الإسلامي مخرجا من تلك الأزمة، قال في مقدمة الرسالة، وهو يحدد محاورها: “سأحدثك فيما أحدثك عن الجاهلية، وعن الفتنة وأحدثك عن الفساد، ثم أنهي بعرض المنهاج النبوي لبعث إسلامي حق” (10).

وقد صيغت الرسالة بأسلوب صريح خال من المداهنة والتمجيد جامع بين ضرورة البيان الناصح لكلمة الحق، وواجب الصدق في إرادة الخير للمنصوح له.

وقد جوزي الناصح الأمين بثلاث سنوات ونصف في المعتقل بلا محاكمة، وشاء الله عز وجل أن يعاصر عهد الملك الجديد الذي تسلم مقاليد السلطة بعد وفاة أبيه فبعث الأستاذ عبد السلام ياسين مرة أخرى في مطلع سنة 2000 بـ"مذكرة إلى من يهمه الأمر" (11) ينتقد فيها الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية الراهنة بجرأته وفصاحته المعهودة واقترح بعض الحلول. وقد أثارت المذكرة ردود فعل متباينة، تراوحت بين التأييد والإعجاب، والتحفظ والرفض والصمت، شأن كل نصيحة ناصعة تؤثر الصراحة والوضوح، وإقامة الحجة أمام الأمة، بدل التلميح والتلويح والغموض.

وخلاصة القول فإن من رحمة الله تعالى بهذه الأمة الإسلامية أن أوجب عليها طاعة أمرائها في المعروف مقرونة بنصيحتهم، وقيض لفريضة النصيحة رجالا أمناء ما زالوا على النصح ظاهرين حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
والحمد لله رب العالمين.

الهوامش:
(1) انظر نماذج أخرى من النصح الصريح في إحياء علوم الدين للغزالي 2/372 فما بعدها و2/161-162 والإسلام بين العلماء والحكام لعبد العزيز البدري ومقدمة الإسلام أو الطوفان لعبد السلام ياسين.
(2) وهو أحد ملوك بني أمية.
(3) الإحياء 2/160.
(4) نفسه.
(5) نفسه.
(6) انظر الرسالة في كتاب النوازل الصغرى للوزاني طبعة وزارة الأوقاف المغربية.
(7) انظر نصيحة أهل الإسلام للكتاني ص 21.
(8) انظر المرجع السابق ص 19.
(9) انظر الإسلام أو الطوفان (مخطوط).
(10) المرجع السابق.
(11) وقد صدر أصل هذه المذكرة باللغة الفرنسية تحت عنوان: “Memorandum à qui de droit”. وترجمت إلى العربية بعنوان “مذكرة إلى من يهمه الأمر”.[/font]