الامام احمد

الامام أحمد
امام جليل طبقت شهرته الآفاق، وأجمع الكل على احترامه، دافع ن الدين دفاع الابطال ولم تأخذه في الله لومة لائم.
انه الامام الجليل: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني ابو عبد الله المرزوي ثم البغدادي. ساق البيهقي نسبه الى ابراهيم الخليل عليه السلام ـ فهو عربي من العرب الخلص ومع ذلك لم يتعصب لعربيته ولم يفتخر بها. قال ابن معين: (ما رأيت خيرا من احمد ما افتخر علينا بالعربية قط). وقال محمد بن الفضل السدوسي الملقب بعارم: قلت لاحمد يوما: بلغني انك من العرب فقال: يا أبا النعمان نحن قوم مساكين.
قدم به أبوه من مرو وهو حمل في بطن أمه فوضعته امه في بغداد في ربيع الاول من سنة أربع وستين ومائة وتوفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين فكلفته امه يقول احمد: فثقبت اذني وجعلت فيها لؤلؤتين فلما كبرت دفعتهما الي فبعتهما بثلاثين درهما.
توجه في حداثته الى دراسة الفقه في مجلس القاضي أبي يوسف ثم ترك ذلك وتوجه الى سماع الحديث فكان أول طلبه له وسماعه أياه من مشايخه سنة تسع وثمانين ومائة وقد بلغ من العمر ست عشرة سنة وخرج الى الحج لاول مرة سنة سبع وثمانين ومائة ثم خرج اليه مرة ثانية سنة احدى وتسعين ثم سنة ست وتسعين وجاور في سنة سبع وتسعين ثم حج في سنة ثمان وتسعين وجاور الى سنة تسع وتسعين وسافر الى اليمن فقابل عبد الرزاق الصنعاني فكتب عنه.
قال احمد: حججت خمس حجج، منها ثلاث راجلا، أنفقت في احدى هذه الحجج ثلاثين درهما. ولقد ضللت في بعضها عن الطريق وأنا ماش فعلت أقول يا عباد الله دلوني على الطريق فلم أزل أقول ذلك حتى وقفت على الطريق.
وكان رحمه الله فقيرا في المال غنيا في النفس قال عن نفسه: خرجت الى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة ولو كان عندي تسعون درهما لرحلت الى جرير بن عبد الحميد بالري، ولقد خرج بعض اصحابنا ولم يمكني الخروج لانه لم يكن عند شيء. ولعل حجه ماشيا انما كان لهذا العذر.
وعن الشافعي قال: وعدني أحمد بن حنبل ان يقدم على مصر فلم يقدم. قال ابن أبي حاتم: يشبه ان تكون خفة ذات اليد منعته من ان يفي بالعدة.
ورغم نشأته في بغداد ـ بلد الخلافة والعلم والحضارة والمدنية المتقدمة في ذلك الوقت ـ لم يكتف بما لقي فيها من كبار العلماء واجلة الحفاظ مقيمين ووافدين بل رحل الى بلاد العالم الاسلامي يستنشق عبير العلم ويتغذى بلبانه ويتيح لنفسه فرصة المقارنة بين مختلف المدارس والبيئات فرحل الى الكوفة حوالي سنة 183هـ، والى البصرة سنة 186هـ والى مكة والمدينة وجاور بهما بعض الوقت كما قدنا والى اليمن والشام والعراق.

شيوخه وثناء الائمة عليه:
سمع من كثيرين وروى عن عدد وفير من العلماء والحفاظ فروى عن بشر بن المفضل واسماعيل بن علي وسفيان بن عيينة وجرير بن عبد الحميد ويحيى بن سعيد القطان وابي داود الطيالسي والشافعي. وقد ذكر احمد في المسند وغيره الرواية عن الشافعي واخذ عنه جملة من كلامه في انساب قريش وأخذ من الفقه ما هو مشهور حتى انه لما توفي وجدوا في تركته رسالتي الشافعي القديمة والجديدة. وقد بلغ ما رواه احمد عن الشافعي من الاحاديث حوالي عشرين حديثا وكان الشافعي يقدره ويحترمه ويجله فقد قال له لما اجتمع به في الرحلة الثانية الى بغداد سنة 190 هـ: يا ابا عبد الله!. اذا صح عندكم الحديث فاعلمني به اذهب اليه حجازيا كان او شاميا او عراقيا او يمنيا… وهو قول يبين مدى ثقة الشافعي في مكانة احمد الحديثية وتفوقه في ذلك على اقرانه وقد اثنى عليه كثير من الائمة المتقدمين غير الشافعي.
فعن ابي اليمان قال: كنت اشبه احمد بن حنبل بأرطأة بن المنذر. وعن احمد بن سليمان الواسطي قال: ما رأيت يزيد بن هارون لأحد اشد تعظيماً منه لأحمد بن حنبل وكان يزيد يقعده الى جنبه اذا حدث ولما مرض احمد ذات مرة ركب اليه يزيد وعاده ـ ولما مات أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج بحمص بالشام قدم كبار علمائها احمد بن حنبل وهو شاب للصلاة عليه تقديراً منهم لمكانته وعلمه وقياما بحق الادب نحوه. وقال يحيى ابن معين وهو احد الذين حفظوا السنة من الدخيل: أراد الناس ان أكون مثل احمد بن حنبل، لا والله ما أكون مثل احمد أبدا، وقال البخاري: لما ضرب احمد بن حنبل كنا بالبصرة فسمعت ابا الوليد الطيالسي يقول: لو كان احمد في بني اسرائيل لكان احدوثة… وقال اسماعيل بن الخليل: لو كان احمد في بني اسرائيل لكان نبيا. وقال المزني: احمد بن حنبل يوم المحنة وابو بكر يوم الردة وعمر يوم السقيفة وعثمان يوم الدار وعلي يوم الجميل وصفين أي اقاموا الدين وحموه وحرسوه وحفظوه فقرن موقفه بموقف هؤلاء. وقال الشافعي: خرجت من العراق فما تركت رجلا أفضل ولا أعلم ولا أورع ولا أتقى من ابن حنبل.
محنة الامام:
طلب المأمون من الناس القول بخلق القرآن ولم يكتف باعتقاد ذلك بل حاول فرضه بالقوة وكلف نائبه ببغداد اسحاق بن ابراهيم ابن مصعب بذلك. فاستدعى جماعة من أئمة الحديث ودعاهم الى ذلك فامتنعوا فتهددهم بالضرب والمضايقة وقطع الارزاق عنهم فأجاب اكثرهم مكرهين أخذا بالرخصة التي فتحها الله للمكره قال تعالى: (الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان). وفي الحديث (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
ولم يمتنع من ذلك الا احمد بن حنبل ومحمد بن نوح فحملا مقيدين على بعير وهددا بالقتل ومات المأمون فردوهما الى بغداد مع بعض الأسارى ومات ابن نوح بالطريق فانفرد الامام بالمعارضة ـ وأودع السجن نحوا من ثمانية وعشرين شهرا أو نيفا وثلاثين شهرا ثم أخرج الى الضرب بين يدي المعتصم وكان يصلي في السجن بمن فيه وهو مقيد من رحليه. ولما خرج الى المعتصم مكنه من مناظرة خصومه فطلب احمد على القول بخلق القرآن دليلا من القرآن او السنة وبين انه لا يقول الا بهما وان الاسلام قام عليهما ولكن خصومه يئسوا من التغلب عليه وهيجوا عليه الخليفة وخوفوه من تعلق الناس به وكبر على الخليفة ان يمتنع احمد عن اجابته ولو ظاهرا لئلا تذوب الفكرة بعد طول تثبيت في قلوب الناس فأمر بضربه وسحبه وأقاموه على كرسي، وظلوا يضربونه بالسياط حتى أغمي عليه مرارا يدعونه كلما افاق الى الاستجابة فيأبى حتى يئسوا منه وخافوا من الفتنة بقتله فأطلقوا سراحه وأجروه من سجنه الى أهله ودووي مما أصابه حتى شفي وسأل لكل من آذاه العافية الا اهل البدع.
حكى البيهقي عن احمد بن حنبل قال: (اللفظ محدث واستدل بقوله: (ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد) فاللفظ كلام الآدميين) ـ وقال ايضا: القرآن كيفما تصرف فيه غير مخلوق واما افعالنا فهي مخلوقة). وهذا ما قرره البخاري في أفعال العباد وذكره في الصحيح مستدلا بحديث: (زينوا القرآن بأصواتكم) ولهذا قال غير واحد من الأئمة: الكلام كلام الباري والصوت صوت القارئ.
هذه هي المحنة التي رفعت اسم أحمد عاليا وشهرت ذكره ورفعت قدره بين أهل عصره حيث باع نفسه في سبيل الله فكان المه أملا وصبره عزا وكلل الله جهاده بالنصر والفخار.
ولما خلص من المحنة لزم منزله لا يخرج منه لجمعة ولا جماعة وامتنع من التحديث واكتفى بايراده من ملك له يدر سبعة عشر درهما في الشهر ينفقها على عياله صابرا محتسبا. فلما ولي المتوكل على الله الخلافة استبشر الناس بولايته وكان الفرج على يديه فمنع القول بخلق القرآن واستدعى نائبه الامام احمد اليه واكرمه وعظمه وحدث ما منع لقاءهما ثم استدعاه الخليفة مرة ثانية فامتنع عن ذلك لمرضه فألح عليه فاستجاب وامتنع عن قبول مظاهر الملك واكرام الخلافة واكتفى بالصيام وشرب السويق واقام على مضض حتى أذن له الخليفة بالعودة الى داره. وتوفي رحمه الله يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الاول من سنة احدى واربعين ومائتين وله من العمر سبع وسبعون سنة رحمه الله ـ وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله لا يعلم عددهم الا الله، حتى لقد قيل ان من حضر جنازته كانوا الف الف وثلثمائة الف او سبعمائة الف أي ما يقرب من مليونين من البشر. قال عبد الوهاب الوراق: ما بلغنا ان جمعا في الجاهلية ولا في الاسلام اجتمعوا في جنازة أكثر من الجمع الذي اجتمع على جنازة احمد بن حنبل.
منهجه في الحديث وأثره فيه:
كان بارع الفهم لمعرفة الحديث صحيحه وسقيمه حتى لقد تعلم الشافعي منه أشياء من معرفة الحديث وكان الشافعي يسأله حديث كذا وكذا قوي الاسناد محفوظ؟ فاذا قال أحمد: نعم، جعله اصلا وبنى عليه. وكان الامام يتشدد في قبول احاديث الاحكام ويتساهل في احاديث الفضائل فقد روى عنه قال: نحن اذا روينا في الحلال والحرام شددنا واذا روينا في الفضائل تساهلنا. وكان يأخذ بما فيه ضعف قريب محتمل يزول بتعدد الطرق وهو الحسن لغيره فيها وكان يقدم السنن على أقوال الرجال ويود ان يكون الفقه مبنيا على النقل قبل أي اجتهاد ـ قال ابو زرعة الرازي: كان احمد يحفظ الف الف حديث فقيل له ما يدريك؟ قال: اخذت عليه الابواب ـ وقال الخليلي: كان أفقه اقرانه وأورعهم وأكفهم عن الكلام في المحدثين الا في الاضطرار ـ وهذا ادب زائد منه.
ومن أشهر آثاره مسنده في الحديث ذلك الكتاب الخالد ابو السنن وأكبر المراجع في مجال السنة من كتب أئمة الحديث التي كتب لها البقاء.
مسند الامام احمد:
سمي بالمسند لانه يقوم على جمع احاديث كل صحابي على حدة دون نظر الى موضوع الحديث وهذا هو المسند في اصطلاح المحدثين. وقد رتبه على حسب فضل الصحابة فبدأ بالعشرة المبشرين بالجنة ثم بمن بعدهم وقد شهد له المحدثون قديماً وحديثا بأنه أجمع كتب السنة للحديث وأوعاها لكل ما يحتاج اليه المسلم في أمر دينه ودنياه. قال احمد عن مسنده: عملت هذا الكتاب أماما اذا اختلف الناس في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع اليه. وقد انتقاه من الوف الاحاديث التي كان يحفظها حتى لقد قيل انه انتقاه من سبعمائة وخمسين ألف حديث…
وقد اشتمل المسند على أربعين الف حديث بالمكرر وثلاثين الفا من غير المكرر ومع ذلك لم يستوعب كل الاحاديث، قال ابن كثير: لا يوازي مسند احمد كتاب مسند في كثرته وحسن سياقاته وقد فاته احاديث كثيرة جدا بل قيل: (انه لم يقع له جماعة من الصحابة الذين في الصحيحين قريبا من المائتين) ولكنه اكبر جهد بذله عالم في مجال السنة وجمعها والعناية بها.
والمسند الذي بأيدينا اليوم ليس كله من رواية الامام احمد ولكن أضاف اليه ابنه عبد الله زيادات ليست من رواية أبيه وكذلك فعل الامام ابو بكر القطيعي راوي المسند عن عبد الله بن احمد. قال الشيخ احمد الساعاتي: (بتتبعي لأحاديث المسند وجدتها تنقسم الى ستة أقسام:

1 ـ قسم رواه عبد الله بن أحمد سماعا من ابيه وهو المسمى بمسند الامام أحمد وهو كبير جدا يزيد على ثلاثة أرباع الكتاب.
2 ـ قسم سمعه عبد الله من أبيه ومن غيره وهو قليل جداً.
3 ـ قسم رواه عن غير أبيه وهو المسمى بزوائد عبد الله وهو كثير بالنسبة لما عدا القسم الأول.
4 ـ قسم قرأه على أبيه ولم يسمعه منه وهو قليل.
5 ـ قسم وجده في كتاب أبيه بخط يده.
6 ـ قسم رواه الامام أبو بكر القطيعي عن غير عبد الله وأبيه رحمهما الله تعالى وهو أقل الجميع.
وكل هذه الأقسام من المسند الا زيادات عبد الله وزيادات القطيعي (القسم الثالث والسادس) وقد امتاز مسند أحمد بثلاثياته وهي الأحاديث التي ليس بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم فيها الا ثلاثة رواه وتزيد هذه الاحاديث في المسند عن ثلاثمائة حديث. وقد جمع الامام مسانيد كثيرة من الصحابة قال أبو موسى المديني: أمام عدد الصحابة فيه فنحو سبعمائة رجل ومائة ونيف امرأة وبلغ عدد شيوخه الذين روى عنهم فيه مائتين وثلاثة وثمانين رجلا.
وبعد: فما زال مسند الامام احمد مدرسة كبيرة ومجالا واسعا لفرسان الحديث نقدا واستخراجا وشرحا وتعليقا الى اليوم…