قبل أن نفاجأ بزلزال جديد

[CENTER]
[RIGHT]قبل أن نفاجأ بزلزال جديد
بقلم:
فهمى هويدى

إذا أردنا أن نخرج سالمين من الزلزال الذي شهدته غزة، فينبغى أن ننحى الانفعال جانباً، وأن نتخلص من الأوهام والأساطير التي راجت حول ما جرى، لأن الخطأ في التشخيص يمكن أن يرتب أخطاء في العلاج، قد تستدعى زلزالاً آخر لم يخطر على البال.

(1)
من مفارقات المشهد وسخريات الأقدار أن الزلزال فاجأ كل القريبين منه، بينما لم يستغربه البعيدون عنه. فقد أشرت في الأسبوع الماضى إلى ما نشر عن شهادة الجنرال كيت دايتون مسؤول الاتصال العسكرى المقيم في تل أبيب أمام لجنة الشرق الأوسط في الكونجرس الأمريكى، التي أدلى بها في شهر مايو الماضى. وتحدث فيها عن انفجار قريب للأوضاع في غزة، وعن دور الإدارة الأمريكية في تعزيز وتسليح القوى الأمنية في مواجهة القوة التنفيذية التي أنشأتها حماس لضبط النظام في القطاع. وهذا الذي قاله الجنرال دايتون لم يختلف كثيراً عما تضمنه التقرير السري الذي قدم إلى الأمين العام للأمم المتحدة من نائبه ومبعوثه إلى الشرق الأوسط الفارودى سوتو. وقد تسرب محتوى التقرير إلى صحيفة الجارديان البريطانية التي نشرت بعض مقتطفاته في عدد 30/6، وهو ما فعلته أيضاً صحيفة هاآرتس الإسرائيلية في عدد 19/6، وفيه قال صراحة إن الإدارة الأمريكية عملت منذ البداية، بالتواطؤ مع بعض عناصر السلطة على إسقاط الحكومة الفلسطينية التي تشكلت بعد الانتخابات التشريعية بأى ثمن، حتى لو كان الثمن حرباً أهلية دامية. وأضاف المبعوث الدولى أنه “كان من الممكن تشكيل حكومة وحدة وطنية في أعقاب الانتخابات، لولا أن الولايات المتحدة دفعت الرباعية إلى وضع شروط مستحيلة للاعتراف بها. فضلاً عن أنها عارضت مبدأ تشكيل حكومة من ذلك القبيل”… وأشار الرجل إلى أنه خلال اجتماع اللجنة الرباعية الذي عقد قبل أسبوع من لقاء مكة، حين كانت المواجهات على أشدها بين حركتى فتح وحماس، فإن المندوب الأمريكى في الرباعية قال مرتين في الاجتماع: “إننى أحب ذلك العنف، لأنه يعنى أن ثمة فلسطينيين يقاومون حكومة حماس”.

هذا الكلام لا يختلف في مضمونه كثيراً عما قاله الرئيس الأمريكى السابق جيمى كارتر، في خطابه امام منتدى حقوق الإنسان في العاصمة الإيرلندية دبلن، من أن واشنطن وتل أبيب فعلتا كل ما بوسعهما لمنع تسوية الخلافات بين فتح وحماس. وإنهما انحازتا طول الوقت إلى جانب فتح لإفشال حماس وإخضاعها في غزة.

لا أريد أن أستطرد في عرض الشهادات المحايدة والوثائق التي سلطت الضوء على العناصر الأساسية في خلفية ما جرى في غزة، إلا أننى أنبه مجدداً إلى حقيقتين غيبهما خطابنا السياسى والإعلامى: الأولى أن الأصابع الأمريكية التي تحركها المصالح الإسرائيلية، سعت جاهدة إلى تفجير الوضع في غزة منذ ظهرت نتائج الانتخابات التشريعية في بدايات العام الماضى، واستعانت في ذلك ببعض العناصر الموجودة في قيادة السلطة. الحقيقة الثانية أن الحكومة التي تشكلت عقب الانتخابات كانت لها مصلحة في تهدئة الأوضاع في القطاع، على الأقل لكى تنجح في مهمتها. لذلك فإنها عملت طول الوقت على إبطال مفعول محاولات التفجير التي تمثلت في استمرار إشاعة الفوضى والفلتان الأمنى.

(2)
الالتباس في قراءة وفهم ما جرى قبل الأحداث استمر بعدها بنفس الوتيرة تحت عناوين عدة. وكانت حكاية الإمارة الإسلامية في غزة من بين تلك العناوين. ذلك أن القراءة الموضوعية والمتأنية لما حدث في القطاع تشير إلى أن المشهد حركته أجندة أمنية بامتياز، ولم تكن وراءه أية أجندة سياسية، على العكس تماماً من الأسطورة التي يروج لها الإعلام الآن. ذلك أن خبرة 15 شهراً أقنعت الحكومة بأنه طالما بقيت الأجهزة الأمنية خارجة عن السيطرة. وتؤدى دورها في إثارة البلبلة والفوضى، فإنها لن تستطيع أن تنجز شيئاً على الأرض. وحين لم تسفر استقالة ثلاثة وزراء للداخلية لهذا السبب عن إحراز أى تقدم إيجابى يخدم التعاون بين تلك الأجهزة وبين الحكومة، فإن رئيسها السيد إسماعيل هنية قدم مشروعاً من ثمانى نقاط لإعادة هيكلة تلك الأجهزة، وإخضاعها لسلطة الحكومة الشرعية. وبالمناسبة فإن الرئيس أبو مازن وافق على تلك النقاط، وفوض أحد قيادات فتح في غزة -السيد أحمد حِلِّس- في مناقشة تفصيلاتها مع ممثلى الحكومة. وكما حدث في مرة سابقة، حين تم الاتفاق على خطة أمنية، أفشلتها قيادات الأجهزة المذكورة في يوم إقرارها، فإنه في حين كانت الاجتماعات مستمرة لبحث مشروع إعادة هيكلة تلك الأنظمة، فإن اشتباكاً وقع في منتصف الاسبوع الماضى في رفح بين مجموعتين. إحداهما تمثل القوة التنفيذية التي شكلتها حماس، والثانية من عناصر الأمن الوقائى. وأدى الاشتباك إلى قتل أحد عناصر القوة التنفيذية واثنين من الأمن الوقائى. وكان الظن أن الحادث سيمر، شأن غيره من الحوادث المماثلة التي وقعت خلال الأيام الأخيرة وتم تجاوزها بصورة أو أخرى. غير أن الأمر اختلف هذه المرة. فقد أعقب الاشتباك انتشار لقوات الأمن الوقائى في الشوارع. استصحب وضع الحواجز واعتلاء المسلحين للأبراج السكنية، والإقدام على إعدام اثنين من حماس، وخطف آخرين. وهو تحرك أيقظ شكوكاً كثيرة لدى الحكومة التي لم تجد مفراً من اتخاذ قرار بالسيطرة على مقار الأجهزة الأمنية، لإنهاء الفلتان والفوضى في القطاع. وهو التصرف الذي يبدو مفهوماً وطبيعياً من جانب أى حكومة تكتشف أن الأجهزة الأمنية التي يفترض تبعيتها لها لا تتحداها فحسب، وإنما تهدد الأمن والاستقرار في المجتمع.

المفاجأة التي حدثت أن تلك الأجهزة انهارت بسرعة لم تخطر على بال أحد، في حين استسلم بعض قادتها، وهرب البعض الآخر، منهم من عبر الحدود وغادر القطاع، ومنهم من لجأ إلى بيت رئيس الوفد الأمنى المصري ليحتمى به.
ثمة تفاصيل مثيرة في هذا الشق لا مجال للخوض فيها الآن، لكن أهم ما يستخلصه المرء من وقائع تلك المواجهة أن تحرك الحكومة لم يكن موجهاً لا ضد أبو مازن، ولا ضد السلطة، بل ولا ضد حركة فتح ذاتها. وإنما كان موجهاً فقد ضد مقار الأجهزة الأمنية، بهدف إخضاعها لسلطة الحكومة، بعدما فاض الكيل وفشلت المساعى طيلة 15 شهراً في التفاهم حول الموضوع.

المدهش في الأمر أن الإجراء الذي اتخذ قرئ على نحو مختلف تماماً، وجرى تسييسه على الفور، وكأن الأجهزة الأمنية هى السلطة والدولة. فتحدث كثيرون عن انقلاب في القطاع، وذهب آخرون إلى حد الادعاء بأن ما جرى في غزة يمهد لإقامة إمارة إسلامية، أطلق عليها البعض اسم “حماستان”، وتطوع نفر من المحرضين فتساءلوا عن الخطر الذي يهدد أمن مصر من جراء إقامة إمارة إسلامية على حدودها، وصفها أحدهم بأنها قنبلة موقوتة، إلى آخر تلك الأساطير المسرفة في الخيال. حتى بدا مضحكاً أن يجرى تخويف المصريين وإثارة فزعهم من قنبلة موهومة في غزة بدعوى أن مصر لا تحتمل وضعاً كهذا، في حين أنها احتملت 200 قنبلة نووية حقيقية قامت إسرائيل بتخزينها على حدودها، ولم ير أولئك المتحدثون في ذلك أمراً يثير القلق أو يهدد أمن مصر.

(3)
في استعراض ما جرى وفهمه على نحو صحيح، تقتضى الموضوعية أن نفرق بين عناصره الجوهرية وبين الممارسات التفصيلية. وفى تتبعى للمناقشات والمساجلات التي جرت حول الموضوع، لاحظت أن التفاصيل الفرعية استحوذت على الاهتمام أكثر من المسائل الجوهرية والكلية. وأحسب أن الدور الأمريكى والإسرائيلى في إذكاء الصراع وتفجيره من تلك القضايا الجوهرية، كما أن الموقف الذي اتخذته الأجهزة الأمنية التي صممت لتكون فتحاوية وفصائلية قبل أن تكون فلسطينية، وتحولت بمقتضاه إلى أداة لإثارة الفوضى وإسقاط الحكومة. وهذا الموقف هو مسألة جوهرية أخرى تحتاج إلى تحقيق وتحرير. يسري ذلك أيضاً على الهدف من تحرك الحكومة، وهل كان أمنياً كما ذكرت أم أنه كان سياسياً. وهل كان إجراء حكومياً لإخضاع الأجهزة الأمنية لسلطة الحكومة الشرعية، أم أنه كان انقلاباً من جانب الحكومة الشرعية. حتى مسألة الشرعية ذاتها تحتاج إلى تحرير من زاويتين، إحداهما ما إذا كانت مظلة الشرعية تغطى الرئاسة المنتخبة فقط أم أنها تتسع للحكومة المنتخبة بدورها من جانب الشعب الفلسطينى. أما الزاوية الثانية فتتمثل في مدى شرعية القرارات التي أصدرها الرئيس ابو مازن بما في ذلك قراره بتعطيل ثلاث مواد من القانون الأساسى الفلسطينى.

هذه الأمور المهمة لم تنل حقها من الاهتمام والتمحيص، في حين أن كثيرين تعلقوا بالتفاصيل، المتفرعة عن تلك الكليات. وهى التفاصيل الحافلة بعناصر الإثارة وبالأخطاء على الجانبين، خصوصاً إذا لاحظنا أن كل طرف أراد أن يشوه صورة الاخر لكسب المعركة الإعلامية التي صارت موضوع الصراع الراهن، بعدما حسمت المعركة عسكرياً في غزة، حتى الآن على الأقل. فجرى الحديث عن جرائم ارتكبها كل طرف بحق الآخر، والتنديد بالممارسات الانفعالية والتصريحات التي اتسمت بالرعونة التي صدرت عن بعض عناصر حماس بوجه أخص. حتى وجدنا أن بيان المجلس المركزى لمنظمة التحرير، وبعض الأبواق الإعلامية، تتحدث عن حوادث القتل وإنزال العلم الفلسطينى من فوق بعض المبانى، والاعتداء على مقر أبو مازن وبيت أبو عمار، ونهب بعض الممتلكات، إلى غير ذلك من الممارسات التي لا تستغرب في أجواء الاشتباك والفوضى، ويظل من الصعب للغاية تحديد فاعلها أو محاسبته. مثل هذه العناوين الفرعية ظلت تلوكها الألسن وتشغل الرأى العام خلال الأيام الماضية، الأمر الذي صرف انتباه الناس عن الأسئلة الأساسية في الموضوع.

(4)
الآن يشهر كل طرف اتهامه للطرف الآخر. فثمة حديث من جانب بعض قيادات فتح عن انقلاب حدث في غزة ومؤامرة لاغتيال ابو مازن. وثمة أحاديث صادرة عن حماس تتحدث عن انقلاب في رام الله، وعن وثائق تم العثور عليها تكشف عن دور خطير وتخريب قامت به الأجهزة الأمنية. ولا سبيل إلى حسم هذا التراشق إلا بعرض الموضوع برمته على لجنة تقصى الحقائق التي قررها مجلس وزراء الخارجية العرب، ولم أجد سبباً مقنعاً لاعتراض بعض ممثلى السلطة عليها.

المثير للانتباه أن ثمة جدلاً واسعاً حول الموضوع في الصحف الإسرائيلية، التي تعددت فيها الآراء بصدده. ولكننا لا نكاد نرى هذا التعدد في ساحاتنا الإعلامية، التي يتبنى أغلبها رأياً واحداً ينطلق من الاتجاه إلى التصعيد والدعوة إلى قمع حماس وإقصائها من المشهد السياسى الفلسطيني. واستئصالها بالكلية من غزة والضفة. وهو الرأى الذي يتبناه المتطرفون في فتح، ويشجعه الإسرائيليون، ويصفق له الأمريكيون بشده. ولست أعرف ان كان ذلك يمكن على أرض الواقع أم لا، ولا ما هو الثمن الذي يمكن أن يدفع لقاء ذلك، ولا ما هى النتائج التي يمكن أن تترتب عليه. وفى هذه النقطة الأخيرة استوقفنى تعليق لمحرر الشؤون العربية في صحيفة هاآرتس، دانى روبنشتاين، قال فيه إن من يرفض الحديث مع حماس اليوم، سيجد نفسه غداً في مواجهة تنظيم القاعدة. وهى ملاحظة مهمة للغاية لها شواهدها على أرض الواقع، ذلك أن القاعدة بدأت تتسلل إلى غزة والقطاع خلال العام الأخير، ولم يحل دون انتشار تنظيمها سوى الوجود القوى لحماس في الشارع الفلسطينى. وتقليص ذلك الوجود هو أثمن هدية تقدم إلى القاعدة، التي ظهرت طلائعها في العراق ولبنان والمغرب والجزائر والأردن واليمن. فهل نحن داعون ومستعدون لذلك الاحتمال.
أما كلمتى الأخيرة فهى تتمثل في السؤال التالى: لماذا لم يعد هناك ذكر لاتفاق مكة، ولماذا لا يتم تفعيله والاحتكام إليه فيما جرى، لعلنا نجد فيه مخرجاً وطوق نجاة من آثار الزلزال الحالى، والآخر القادم.[/right]


عن الشرق القطرية

[/center]

لاحول ولاقوة الا بالله