رُفعت الأقلام ( لمحبّي الكِتابة الأدبيّة )

بسم الله الرّحمن الرّحيم
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إخواني وأخواتي روّاد مُنتدى المُهندس؛
في شأنِ **الكتابة الأدبيّة **، وهذهِ الملكة الرّبّانيّة؛
مقال قيّم؛ أسأل الله تعالى أن ينفعنا به.

:: رُفعت الأقلامُ ::

/

لكلِّ كاتب دوافعه الخاصة التي تُحرِّك
أنامله نحو الكتابة، تتبايَن بين نوازع نفسيَّة أو فكرية، فردية أو
اجتماعية، قد أكتب لأن الكتابة فُسحتي للبَوح والتعبير عما يجول في خاطري،
وقد أكتب لأن الكتابة متنفَّسي الوحيد للتحرُّر من الضغط النفسي، وقد أكتب
لأن ظاهرةً أرَّقتني فأحببت تبصير الناس بها، وقد أكتب لأني أبصر ديني يهان
فتُحرِّكني نخوتي وإيماني لأذود عنه، وقد، وقد.

كن فجأة قد أدوس بكامل قُواي العقليَّة كل
هذا، وأحتمي بالعُزلة بعيدًا عن الخلْق، وهذا قرار صعب، وضرب من ضروب
الانتحار البطيء لمن أضحت الكتابة ملاذَه ومُتنفَّسه؛ ولهذا قال الأمريكي
فيليب روث حين قرر اعتزال الكتابة: (أصعب شيء في الحياة أن نَكسر الصمت بالكلمات، ثم نكسر الكلمات بالصمت).

[color=navy]إذا كانت الكتابة فعلًا ذاتيًّا، فالذات لها قدرة وطاقة استيعابية تستطيع بها
تَحمُّل ضغوط الحياة، ومتى نفدت بطاريتها، أحسَّ الكاتب بضرورة التوقُّف
جزئيًّا أو كليًّا عن خوض غمارها، وعبر التاريخ الإنساني كانت قرارات
اعتزال الكتابة شائعة قديمًا وحديثًا، فمن حالت الكتابةُ دون استمتاعه
بطيبات الحياة، هجرها ومضى يُسلِّي نفسه بشهوات الدنيا الأخرى، كما هو
الحال مع الروائي الأمريكي فليب روث.

ومَن قاسى مرارة الظلم والاضطهاد وتملَّكه
اليأس والإحباط، فقد أحرق كتبه ودواوينه في أواخر عمره، كما حدَث مع
الشاعر عبدالرحمن شكري، الذي (مُنع مِن الترقِّي في وظيفته، وشهد تحريضًا
ضده بسبب كتابة قصيدته “أقوام بادوا”، دفعت لخروجه على المعاش)؛ كما ذكرت حنان عقيل في مقالة لها.[/Color]

وهناك ضرب من الاعتزال كان منشؤه النقد الحارق الشديد، الذي لا يَستطيع معه الكاتب
الذي لا يأوي إلى ركن شديد أن يَصمد أمامه، كما هو الشأن مع الشاعر المصري
إبراهيم ناجي.

ومن الأدباء من قرر الاعتزال وهو في بداية
مشواره حين أبصر الكتابة اليوم تَمتطي صهوة الزبونية والمحسوبية، غير
مُحتفية بالقيمة الإبداعيَّة؛ كما هو حال الروائي هشام آدم، الذي قال عن
أسباب اعتزاله: “لكي تنجح يجب أولاً أن يكون لديك القدرة على شراء النجاح،
وأنا لا أملك ذلك، وليس لديَّ علاقات أخطبوطيَّة، فلا أحد من أصدقائي صحفي،
ولا أحد منهم ناقد، ولا أحد منهم مُترجم، ولا أحد منهم صاحب دار نشر، ولا
أحد منهم مقدِّم برنامج، اكتشفت أن الذي يريد أن يصعَدَ إلى الأعلى لا بدَّ
له من أصدقاء يرتقي على أكتافهم، أصدقاء يُساعدون في حملِه ورفعه إلى
الأعلى، قررت آخر الأمر أن أعتزل الكتابة الروائية تمامًا، وأن أتنازل عن
مشروعي الأدبي، وعن أحلامي المرتبطة بالكتابة الإبداعية تمامًا، لم يكن هذا
قرارًا عاطفيًّا؛ وإنما هو استشراف للمُستقبَل، فلا أريد أن أقضيَ ما تبقى
من عمري في مطاردة الوهم الذي أعرف أنه لن يتحقَّق”.

وقد يرتبط الاعتزال بأمر عقدي إيماني؛ كما هو الحال مع الشاعر العربي المسلم لبيد بن
أبي ربيعة، الذي اعتزل الشعر عقب إسلامه إيمانًا ويقينًا أنْ لا قول يعلو
على قول القرآن، ولا بيان يسمو على بيان الرحمن، وذكر أنه ما أنشد إلا
بيتًا شعريًّا واحدًا بعد إسلامه، وهو:
الحمد لله إذ لم يأتِني أجَلِي :diamonds::diamonds::diamonds: حتى لبستُ مِن الإسلام سربالا.

وإن المرء
ليجد بعض السَّلوى حين يقرأ أن خيرة أهل الأدب والعلم قد مرُّوا بلحظات
اختنقت فيها كلماتهم، وجفَّت معها قرائحُهم، ورُفعت فيها أقلامُهم، فآثروا
العُزلة ولو إلى حين، كما هو حال شيخنا الأديب علي الطنطاوي رحمه الله،
الذي قال في كتابه الماتع “من حديث النفس” ص: 237:
"أعترف أنها قد جفَّت قريحتي فما تبضُّ
بقطرة، وكَلَّ ذهني ومات خيالي، ومرَّت عليَّ أيام طوال لم أستطع أن أخطَّ
فيها حرفًا، وعدتُ - من العي والحصر - كأول عهدي بصناعة الإنشاء، وأصبحت
وكأني لم أكن حليف القلم وصديق الصحُف، وكأني لم أجر للبلاغة في مضمار، وما
أدري أأبرأني الله من حرفة الأدب التي ابتلاني بها وابتلاها بي، أم هي
سكتة عارضة وعقلة مؤقتة كالذي يعرض للشعراء والكتاب، ثم تزول السكتة وينطلق
اللسان…؟ وما أدري أعلَّة ذلك الزواج (وقد قالوا: إن زواج الأديب يؤذيه
وتغور منه يَنابيع فِكره)؟ أم هي الرزايا والآلام، وما يغيظ الأديب من
انحراف الأمور عن صراطها، وتقدُّم مَن حقه التأخُّر، وتأخر من يستأهل
التقدم، وضياع الحقوق، وغلبة الجهال، أم هذه العزلة الحسية والروحية التي
أبْتُ إليها طوعًا أو كرهًا، فجعلت حياتي كالبركة الساكنة لا يسقط فيها حجر
فيثير أوحالها ويُخرج دررها؟) ص: 238.

[color=brown]ومع أني في بداية مشواري ومُغامرتي مع الكتابة، فإنني أجد نفسي تهفو إلى مثل هذه
العزلة، فلا أملك إلا أن أنحو مَنحى الاعتزال، وأسير في درب من آووا إلى
كهوف أنفسهم بعيدًا عن صخب الأضواء، فكثيرًا ما أُسائل نفسي: لماذا نكتب؟ ولماذا نقرأ؟

إن كان مصير كتاباتنا كمصير البحوث
الجامعية اليوم، تأكلها أرَضَة الأرشيف، أو تَبتلعها سلة المهملات، فأعتقد
أنه لا جدوى من إرهاق أنفسنا وإزهاق أرواحنا كمدًا في سبيلها.[/color]

لم تكن الكتابة لي يومًا حلمًا حقيقيًّا، ربما كانت في اللاشعور الذي كان يَدفعني
في صغري إلى تدوين خربشات خجولة في دفتر الذكريات كما كل الصبايا الساذجات
وقتئذٍ، وقد وجدتني قبل سنوات أقتحم بابها بحماسة وهمَّة بتشجيع مِن أولي
النهى، ودعم ممن لهم بصيرة وإلمام بخبايا هذا الميدان، لكن كثيرًا ما كان
يعتريني اليأس ويلفُّني الإحباط وأنا أنظر لكتاباتي في ملفاتي على الجهاز،
أو في الجرائد والمجلات التي نشرت لي، فأقول: وماذا بعد؟

لطالما كتبنا عن المنكرات التي تنغِّص
عيشنا، لكنها في ازدياد، لطالما تحدثنا عن الفضائل والقيم والعلاقات
الإنسانية الجميلة، لكنها تسوء يومًا عن يوم، لمن نكتب؟ ولمَ نكتب؟

[color=dark green]قد قلتُ يومًا: (حرفك الصادح بالحق معذرة إلى ربك… فاجتهد ولا تعجز)، نعم قلتها، فأضعَفُ الجهاد جهادُ الكلمة وقول الحق في زمن الباطل، لكن فوق طاقتك لا تُلام، وكما قال ربنا في محكم كتابه: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286].

حين تُصبح الكتابة عبئًا لا مُتنفَّسًا، فالأَولى تَركُها.
حين تغدو الكتابة ديكورًا ثقافيًّا نلهث خلفه، فالأولى تركُها.
حين تلتبس النية الصادقة بنِيَّات دنيوية، فالأولى تَركُها.
حين تُعطى الأسبقية للصوص الأفكار ونصوص الخنا والعار، فالأولى تركها.
حين لا يستفزُّني شيء للكتابة، وتتبلَّد كل حواسي، ويغدو القوم كلهم عندي سواء، فالأَولى تركُها.
إن قرار التوقف عن الكتابة كقرار الإضراب
عن الطعام، موقف احتجاجي للكاتب يعكس حالة الحنق التي تَعتريه حين يبصر
قلمه لا يكاد يحلحل حالًا ولا يشيد بنيانًا.
حين يبصر الحروف تُنثر هنا وهناك مزينة
الفضاءات، ورفوف المكتبات حبرًا يسرُّ الناظرين، وقيمًا تشد أفئدة
المعجبين، وهي من واقعها براء!
لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ وما جدوى التعب في تدبيج الحروف إن كانت لن تَزيدنا إلا رهقًا؟[/color]

وما أصدق قول الشيخ الطنطاوي وهو يُعلنها عن خبرة وبيان:
(ماذا أفدتُ مِن الأدب؟ أما إني لم أجد
الأدب إلا عبَثًا، ولم أجد الأُدباء إلا مجانين! يسعى الناس وراء المال،
ويسعون وراء سراب خادع يُسمونه “المجد الأدبيَّ”،
كلما أقبلوا عليه نأى عنهم، فما هم ببالغيه حتى يموتوا، وما ينفع ميتًا
ذكر في الناس ولا يغني عنه مجد، ما ينفعه إلا ما قدَّم من عمل صالح).


كتبه/ أ. لطيفة أسير.
المصدر/ شبكة الألوكة.

إعجابَين (2)