عناصر النهضة

عناصر النهضة

من بين القضايا الكبرى التى تشغل بال المتفكر فى مستقبل مصر ، مسألة موقفنا من التكنولوجيا ، وملخص هذه القضية هو أننا على ما نملك من عناصر مختلفة لقوة الأمم ( إقتصاد - ثقافة - تاريخ - ثروة بشرية - موقع … إلخ ) ، فإن نصيبنا من عنصر رئيسى هو العلم والتكنولوجيا ضئيل بدرجة خطيرة ، وهو بالقطع أقل كثيراً من النسبة الحسابية لوجودنا على كوكب الأرض إذا حسبناه بمقاييس الكتلة البشرية ، أى أننا نمتلك من العلم والتكنولوجيا أقل كثيراً من نسبة واحد بالمائة وهى نسبة 70 مليون مصرى إلى سبعة مليارات من أبناء البشر ، بل أن نسبة وجودنا فى ميزان العلم والتكنولوجيا أقل من ذلك بدرجة تهدد نهضة ومستقبل هذه الأمة .

وموضوع أن العلم والتكنولوجيا مهمان بهذه الدرجة يحتاج إلى بسط وتوضيح ، إن عنصر التكنولوجيا المتاحة لفريق دون أخر كان على مر التاريخ هو العنصر الحاسم فى كل التحويلات التاريخية الكبرى ، وما إشتبكت أمتان فى صراع عسكرى أو حضارى على مر التاريخ إلا كان الحسم فيه لمن يملك عنصر المفاضلة فى التكنولوجيا فى عصره . وشواهد ذلك من التاريخ متعددة .

حدث ذلك كما نعلم فى غرو الهكسوس لمصر بعجلاتهم الحربية ( تكنولوجيتهم ) التى لم يكن يعرفها المصريون. حدث هذا أيضاً فى غزو نابليون لمصر عندما كان البارود هو العنصر الذى رجح كفة الغازى على المصريين الذين ذهلوا كما يذكر الجبرتى من هول هذا البلاء الذى أسقطته عليهم هذه " القنابل الطائرة " .

كما أن إمتلاك التكنولوجيا - بكافة أشكالها وعناصرها - كان هو العامل الذى أدى إلى عودة اليابان وألمانيا إلى إحتلال مواقعها بين الدول المتقدمة بعد هزائم ساحقة وتقدم الصين لتحتل موقعاً إقتصاديا وإستراتيجيا يتفق مع وزنها لم يتم إلا لأنها تمتلك تكنولوجيات لا تقل قدرة عن مثيلاتها الغربية .

بل ان الصراع الأكبر فى عصرنا بين القوتين العظميتين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتى كان فى جوهرة صراعاً على إمتلاك أسباب القوة والهيمنة وكانت تلك الأسباب قد تبلورت بعد الحرب الثانية لتصبح هى إمتلاك التكنولوجيات الحديثة القوية التى سادت فى القرن العشرين : تكنولوجيا الطيران - التكنولوجيا النووية - التكنولوجيات العسكرية كالرادار وغيره . وعندما حسم هذا الصراع حسم فى مجال الفضاء ودون حرب عندما تبين بجلاء تفوق القدرات التكنولوجية الأمريكية وإثبات أن الفارق سوف يجهد الإتحاد السوفيتى ولن يمكنه اللحاق بأمريكا ( فى حرب النجوم ) الأمر الذى جعل الإتحاد السوفيتى السابق يترك هذا السباق ويسلم بالتفوق للولايات المتحدة وما أدى إليه ذلك من تداعيات سياسية وإستراتيجية معروفة .

ويجب علينا النظر بإمعان فى التكنولوجيات التى ذكرناها وغيرها من عناصر القوة ، وألا يفوتنا أن هذه التكنولوجيات كالليزر والرادار وتقنيات الفضاء تعتمد على بعد علمى عميق . وعندما إخترع الرادار فى خضم الحرب العالمية الثانية كان العدو لا يعرف على أى مبدأ علمى بنى هذا السلاح السرى . وكان التمكن من هذه العلوم هو مفتاح النصر فى المعارك التى دارت رحاها فى المختبرات والمعامل قبل أن تدور فى ساحات المعارك .

القضية إذن دون لبس … أن نهضة الأمم وتقدمها وبقائها فى مواقعها القيادية أو تراجعها عنها وفقدانها لمكانتها رهن بتملكها لعناصر العلم والتكنولوجيا السائدة فى عصرها والمؤثرة فى مستقبلها والتمكن منها بما يجعلها جزءاً من نسيج أمه ما وفكرها وثقافتها وتدريبها وإستعدادها الثقافى والعلمى والصناعى

بعد وضع هذه القضية فى مكانها من خريطة عناصر نهضة الأمم ( نتصور أن هناك خريطة إفتراضية لعناصر النهضة وتوجهات الأمه خلال السنوات الثلاثين القادمة وأن على المفكرين أن يوجهوا جهودهم لتوضيح تفاصيل هذه الخريطة والمساهمة فى تحديد تلك التوجهات ) يكون لنا بعد ذلك أن نسأل أين مصر من هذه القضية وأين نحن من الوعى بأهميتها مثقفين وسياسيين وصناع قرار فى مجالات الصناعة والأعمال والتعليم والبحث العلمى . ثم يكون علينا بعد ذلك أن نحدد ماذا نفعل وأين نركز جهودنا .

والإجابة على السؤال الأول ، أين نحن ذلك واضحه لا تحتاج إلى كبير جهد فى إستخراجها فقضية التكنولوجيا ليست على جدول إهتماماتنا النهضوية ( فى إهتماتنا قضايا الإصلاح السياسى والخطاب الدينى ومحاربة الفساد وهى كلها قضايا مشروعة تستحق الإهتمام ) ولا تحتل على أهميتها من وعينا الثقافى الجمعى ما تستحقه مسألة نرى أنها عنصر حاسم فى مستقبل النهضة فى مصر .

إن تخلفنا التكنولوجى يهدد مستقبلنا - فنحن لا نملك عناصر القوة الكامنة صناعياً وإقتصادياً وتعليمياً وعلمياً ومع ذلك فنحن لم نتظر بعد إلى هذه القضية بما يجدر بها من إهتمام مجتمعى كبير وحتى يتبين لنا كيف أن هذه القضية لا تحتل المكانة المطلوبة فى سلم الأولويات ونطرح كيف يمكن أن نغير هذا ، فإن لنا أن ننظر فى عدة مجالات ونستخدم عدة مقاييس :

أولاً : فى مجال التعليم : إن التدهور العام فى مجال التعليم فى مصر لا يحتاج لمزيد من الكلام ، إلا أن هناك سمات تميز هذا التدهور لها تأثير أعمق لا يتضح إلا بعد سنوات طويلة ويحدد مدى التقدم الممكن لمصر خلال الربع الثانى من القرن الحادى والعشرين .

هذه السمات يمكن تلخيصها فى سمتين رئيستين . الخلل فى التوازن بين التعليم العلمى والأدبى لصالح الأخير بنسبة مخلة ومضرة فالتعليم الأدبى الآن يستوعب ثلاثة أرباع المتقدمين لمرحلة الثانوية ويبقى الربع من القوة البشرية المتعلمة ليمكن أن يخرج لمصر منها العلماء والأطباء والزراعيون والتكنولوجيون الذين يمكن أن يواجهوا مشاكل العلم والتكنولوجيا فى الربع التالى من القرن . المشكلة هنا أنه عندما ننتبه لخطورة هذا ونبدأ فى التوجه لهذا فلن نجد لدينا شباباً مدرباً على الأخذ بأسباب علوم وتكنولوجيا العصر … وعندئذ ماذا نفعل ؟ وخاصة إذا إضطرد هذا التوجه ولم يبدأ العمل فورا ً على عكس هذا التيار .

أما السمة الثانية فهى ضعف المستوى التعليمى بصورة عامة وخاصة فى مجالات العلوم . الرياضيات والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا . عندما ادركت امريكا أن هناك فارقاً بينها وبين اليابان فى مستوى تدريس الرياضيات والعلوم ظهر تقرير " أمة فى خطر " وإعتبرت الدولة كلهاً أن هناك موقفاً خطيراً يستحق الإنتباه وحشد الجهد لحله . وهكذا فعلوا . هكذا الحال فى مصر الآن . نحن نحتاج إلى صحوة تعليمية تعيد التركيز على العلوم والتكنولوجيا بعمق كافى ليخرج لنا جيل أو جيلين من الشباب المدرب ليكون منه علماء المستقبل . وبمعنى آخر ليس لدينا الآن الآلة التعليمية التى تخرج لنا علماء المستقبل . فى هذا الموضوع كلام كثير يمكن أن يقال عن الأضعاف العام لمستوى التعليم إستسهالاً وخضوعاً لرغبة الكثيرين فى حمل شهادات لا تجاوز قيمتها كثيراً الورق الذى كتبت عليه لكنها تلبى رغبة مجتمعية عند بعض الناس وتضعف فى الوقت نفسه كثيراً من قوة المجتمع .

ثانياً : الصحافة العلمية والكتاب : هناك دور كبير للصحافة فى نشر الإهتمام بالعلم والتكنولوجيا فى مصر كقضية قومية تمس مستقبل البلاد . ومن الغريب أنه قد حدث توسع ملحوظ فى الصحافة فى مصر ( أخر رقم : أكثر من خمسمائه صحيفة ومطبوعة بين يومية وأسبوعية وشهرية ) ومع ذلك فلا نجد صحفية علمية قوية واحدة فى صحيفة من الصحف سواء القومية منها أو المستقلة أو المعارضة ومن الملفت أن هذا النشاط العلمى للصحافة يمكن أن يكون جاذباً للقارئ وناجحاً إقتصادياً وإعلاميا لكن الأمر يتطلب إعداد فئة جديدة من الصحفيين العلميين الذين يستطيعون الكتابة فى الموضوعات العلمية بثقة وتمكن . والواقع أن أخبار العلم فى صحفنا حالياً هى أخبار أشخاص أو أخبار عن أجهزة حديثة تروجها بعض الشركات العالمية أو بعض الإنجازات المستقاه من الصحافة العالمية وليس فى هذا أو ذلك ما يغنى ولا يحقق هدف توطين المعرفة والتكنولوجيا فى مصر ورفع الوعى والإهتمام بها فى المجتمع وإذا وضعنا تصنيفاً لصفحات الأخبار والصفحات السياسية والفنية والرياضية والعلمية والدينية لوجدنا دون حاجة لكبير جهد أن الصفحات العملية ستقع فى ذيل السلسلة - أو بعد ذلك - وهل يمكن أن يثمر هذا مجتماً يسعى للحصول والتمكن من تكنولوجيا عصره . هذه مسئولية تقع إذن بوضوح على القائمين على الصحافة فى مصر وعليهم أن يدركوا أن جزءاً من نهضة الحقيقية المستقبلية متعلق بما يفعلونه فى هذا الشأن .

ومن المثير للإهتمام - وهو عنصرإيجابى - ان الكتاب العلمى ليس على مثل هذا الحال الصعب . فالواقع أن النشر فى مجال الكتب العلمية المترجم منها والأصلى واسع النطاق وجيد المحتوى فى عمومه ويجد القارئ بسهولة نسبية ما يشبع رغبته فى المعرفة
ثالثاً فى مجال المجتمع المدنى - الجمعيات العلمية :

فى سنوات النهضة فى أوربا قامت الجمعيات العلمية الأهلية بدور كبير جداً فى تأسيس ودعم النهضة العلمية وتشكيل المسار الجديد للفكر الأوربى . وأدوار مثل دور الجمعية الملكية فى بريطانيا والجمعية الجغرافية التى مولت عدداً من البعثات الإستكشافية وجمعيات الطيران التى طورت علوم المناطيد عندما حظر على الألمان تناول موضوعات الطائرات كل ذلك أدلة على دور الجمعيات العلمية الأهلية فى قيادة النهضة العلمية فى أى بلد. وكانت هذه الجمعيات هى الأساس لجمعيات أكثر تنظيماً ظهرت فيما بعد لتضم مهندسى الكهرباء مثلاً أو مهندسى الراديو أو الفلكيين وهكذا . إلا أن هذا الفكر لم ينتقل للعالم العربى ، ولعل الوقت مناسب لتتكون جمعيات أهلية تعمل على رفع شأن فرع معين والإهتمام به و تصدر دوريات خاصة أو تعقد الندوات العلمية أو تعطى المشورة للدولة بشان مناهج التعليم فى هذا المجال وهكذا . مع تشعب الإنشطة وصعوبة إستجابة الجهاز الحكومى لكل التغيرات العالمية فى مجالات العلوم والتكنولوجيا ، فإن الجمعيات العلمية الأهلية ضرورة للتقدم .

د.م . محمد بهى الدين عرجون
أستاذ بكلية الهندسة ـ جامعة القاهرة
مدير مشروع تصنيع القمر الصناعة المصرى مصر سات