ماذا قدم العرب والمسلمين على مدى تاريخهم فى علم الهندسة ج٤

نستكمل اليوم بإذن الله ما قد بدأناه عن العالم بديع الزمان ابو العز اسماعيل بن الرزاز وقد وصلنا فيما ما سبق إلى أنه تمكن من إيجاد المكان اللازم لبدء اعماله وكيف ادهش الناس والوالى فى جزيرة بن عمر ببديع آلاته واصبح الجميع يستخدم ما يصنعه من آلات من فقراء وأغنياء وبعد أن اصبح العالم بن الزاز بهذه الشهرة فى جزيرة بن عمر أستدعاه والى حصن كيفا (الذي تتبع له جزيرة بن عمر) وأعد عدته للسفر وكان جده الذى قام برعايته كما وضحنا سابقا قد انهكته الشيخوخة وحزن لفراقه ولكنه قال له " أنا حى فيك يا أبا العز" ومن هنا جاءت هذه الكنية التى سماه جدها بها وهو مسافرمن جزيرة بن عمر. ورحل حتى وصل الى مكانه الجديد وقد أستقبله والى الحصن بكل حفاوة وأكرمه ووفر له سبل الراحة والعمل وبدء بعمله وقام بنشر آلاته ولكنه لم يلبث كثير فى حصن كيفا حتى استدعاه حاكم ديار بكر (الذى يتبع له حصن كيفا).

(تعليق: من الجدير بالذكر أن بن الرزاز كلما انتقل مكان جديد كان يدرب بعض الصناع الذين يعملون معه ويصبحوا مؤهلين لعمل آلاته ولكنه كان حينما يغادر المكان كان يذهب بمفرده دون الصناع ولذلك أعتقد أن ذلك كان يساعد على عدم توقف انتشار علمه وآلاته فى المكان الذى تركه على الرغم من عدم وجوده فيه وإن كان يمثل عبئا عليه إذ يقوم بتدريب مجموعة جديدة كلما أنتقل الى مكان أخر).

بعد أن انتقل إلى آمد فى ديار بكر تركه الامير الارتقى نصير الدين بضعة أيام يتجول فى المدينة - بعد أن وفر له المسكن اللازم له- ثم استدعاه ووضح له بانه تركه يتجول ليعرف بنفسه ما تحتاجه المدينة وما يمكنه أن يفعل لها وأخبره بن الرزاز بان ما عمله من حيل من قبل إنما كان من ابتكارات من قبله ولسوف يفعل مثلها ويزيد عليها من ابتكاراته الجديدة .وفى مدينة آمد بلغت شهرته مبلغها ولعل ذلك ما جعل اسمه يتلازم مع هذه المدينة أينما تم ذكره، وفى خدمة الاسرة الأرتقية المالكة بديار بكر مكث بن الرزاز 25 سنة منذ أن دخل (577ه-1282م) ولم يتوقف طوال ربع قرن عن إنجازاته وصنع آلاته واونيه العجيبة لقصر الاراتقة وأنهارآمد ومساجدها وكنائسها وحصنها.

من أشهر ساعات الجزرى (ساعة الفيل)

وملأ القصور بساعات شمسية دقاقة تعلن عن ساعة الغداء بصوت رنان وساعات ليلية مائية تشير عقاربها إلى الوقت وغيرها كثير.

ومن عجيب ما يُنسب للجزري أنه أول من اخترع (الإنسان الآلي المتحرك للخدمة في المنزل!!)… حيث طلب منه الأمير نصير الدين أن يصنع له آلة تُغنيه عن الخدم كلما رغب في الوضوء للصلاة، فصنع له آلة على هيئة غُلام مُنتصب القامة، وفي إحدى يديه إبريق ماء، وفي اليد الأخرى منشفة، وعلى عمامته يقف طائر… فإذا حان وقت الصلاة يُصَفِّرُ الطائر، ثم يتقدم الخادم نحو سيده، ويصب الماء من الإبريق بمقدار معين، فإذا انتهى الخليفة من وضوئه يقدِّم له الغلام المنشفة ثم يعود إلى مكانه، والعصفور يغرد!!

إن الجزري كان يجمع بين العلم والعمل و يمثل وصفه للآلات وصف مهندس مخترع مبدع عالم بالعلوم النظرية والعلمية ومن أهم تصميماته المضخة ذات الأسطوانتين المتقابلتين وهي تقابل حاليا المضخات الماصة و الكابسة ، وتصميماته لنواعير رفع الماء عن طريق الإستفادة من الطاقة المتوفرة في التيار الجاري في الأنهر . و إن تصميمه لمضخة الجنزير و الدلاءو هو نوع من ألات السقوط وهذه الألات تعطي مردود حركي بفضل سقوط الماء على المغارف وتحتاج عادة مثل هذه الألات إلى رفع منسوب الماء عن طريق سدود أو مصادر مائية أخرى .

وتكمن أهمية تصميمات الجزري بأن كافة الات رفع الماء المعقدة ذات الجنزير والدلاء الموضوعة من قبل الجزري كانت تدور بقوة دفع الحيوانات وليس بقوة الماء وهو الذي وضع أساس الإستفادة من الطاقة الكامنة للمياه بشكل عملي كما
كان الجَزَري أول مهندس غيَّر مفهوم الهندسة باستخدامه الترس أو الدولاب المسنَّن، وذراع التدوير “الكرنك” والمِكبس “البسْتُون” وعمود التدوير ما مهد الطريق لنظام الهندسة الحديث.

وفى عام 602 هجرية توج الجزرى مبتكراته بآلة حاكى بها آلة موجودة بمرصد سامراء تظهر فى ثقوبها النجوم حين تظهر فى السماء يراها الناظر فى تلك الآلة دون أن يرفع عينيه إلى السماء

ولما كبر فى السن طلب منه الامير نصير الدين أن يدون علومه وابتكاراته فى كتاب حتى يبقى من بعدهم فوضع كتابا فى علم الحيل وفى فرعين من فروعها هما هندسة الموائع"الهيدروليكا" وهندسة الحركة “الديناميكا” وجاء الكتاب مجلدا ضخما فى ثلاثة اجزاء واسمهاه “كتاب الهيئة والاشكال” واشتهر الكتاب من بعده باسم" كتاب فى معرفة الحيل الهندسية" و"كتاب الحيل فى الجمع بين العلم والعمل" وأهدى كتابه إلى صديقه الامير نصير الدين وقد استغرق عامين فى كتابته.

ومن الجدير بالذكر توضيح أن الامير سأله كعالم فى الحيل عن رأيه فى الزمن وأنه لصيق بحركة آلياته فقال له الجزرى أن الزمن ينساب مستمرا بمعدل ثابت من غير الرجوع إلى شئ آخر وأن حركة الساعة تقوم على هذه الفكرة. وكان هذا الإدراك من الجزرى هو السبب فى حديث اسحق نيوتن بعد قرون عن الزمن المطلق فى كتابه “برنسيبا”.

وكما تحدثنا سابقا أنه لم يعرف على وجه التحديد زمن وفاة العالم الجليل الجزرى.

فى الغرب تُرجم كتاب الجزرى إلى لغات عديدة بينها اللغة اللاتينية فى القرن الثالث عشر الميلادى وفى الغرب ايضا أشاد كلا من “الدوميلى” و"سارتون" و “هونكه” بابن الرزاز لاهتمامه بدراسة آلات قياس الزمن زمسائل علم الهيدروليكا والآلات المتحركة بذاتها"الديناميكا" وبكتابه فى علم الحيل الهندسية باعتباره أوسع الكتب الميكانيكية التى ظهرت حتى آلان وذروة الإنجاز العربى الإسلامى فى الهندسة الميكانيكية.
وفى الغرب توجد مخطوطات هذا الكتاب فى اكسفورد ولندن ودبلن وسواها من مكتبات أوروبا.

وفى الشرق كتب عن بن الرزاز وكتابه الهندسى المدهش حاجى خليفة فى “موسوعته كشف الظنون” واحمد يوسف الحسن فى بحثه القيم عن الهندسة الميكانيكية العربية ومصطفى نظيف فى كتابه" علم الطبيعة" وغيرهم كثير.وفى الشرق توجد مخطوطتان لكتاب بن الرزاز مصوُرة عن مخطوطة اكسفورد.

وفى الختام ارجو ان اكون قد وضحت جزء ومن حياة هذا العالم وبينت بعض إنجازات العرب فى الهندسة الميكانيكية.

أرجو أن تكونوا قد استفدتم ولا تنسونا من دعائكم.

إعجابَين (2)