«مدن الأزمات»

«مدن الأزمات»
د. مشاري بن عبدالله النعيم
التأثير البالغ الذي تركته الطفرة النفطية الأولى على المدينة في منطقة الخليج العربي تتمثل في تبني الثقافة الاستهلاكية، فقد أدمنت تلك المدن الوفر المالي الذي يجعل منها ساحة للتجريب بل وإعادة التجريب. فأغلب العواصم الخليجية بنيت ثلاث مرات تقريبا منذ السبعينيات وحتى اليوم دون أي حاجة لذلك سوى توفر المال الذي أغرى بالتغيير، حتى أن بعض المدن تحولت إلى مدن «مغامرات» لكل المعماريين والمطورين من كل أنحاء العالم الأمر الذي أدى إلى تحول هذه المدن إلى مشروع «عقاري» لا يستند على أي مبررات تنموية ولا حتى حضرية. ويبدو أن مركب النقص لدى مسؤولي المدن الخليجية بأن مدنهم لو ظلت تنمو بنفس معدل النمو السكاني والعمراني الطبيعي فإنهم لن يحصلوا في يوم على مدن كبيرة (مثل باقي المدن العربية الكبيرة في تلك الفترة) ولن يكون للأرض والنشاط العقاري أي قيمة، وبالتالي لن تكون لهم مصالح يحققونها من خلال هذه المدن هو الذي دفع بهذه المدن إلى هذه المغامرات غير المحسوبة العواقب. ومع ذلك يجب أن نقول هنا إن حلم «المدينة الكبيرة» لدى بعض الخليجيين هو أحد تشكل ظاهرة «مدن الأزمات»، على أن فكرة تحويل مدن المنطقة إلى «مشروع استثماري» هي «النمط الذهني» الذي ساد بعد ذلك وهي فكرة ارتبطت بمجموعة محددة ذات قوة ونفوذ في المدينة وبالتالي تحولت المشاريع الحكومية التنموية لخدمة مصالح هذه الفئة فشقت الطرقات وامتدت المدن كي تتحول الأراضي التي لاتساوي شيئا وسط الصحراء إلى أراضٍ ذات قيمة كبيرة وبالتالي أصبح النمو العمراني مفتعلا وغير مبرر.
المشكلة الكبيرة التي تكمن في سياسة التنمية المفتعلة هذه هي أنها مع الوقت تحول المدن إلى «مدن أزمات» فكل نقص في الموارد المالية ينعكس بشكل مباشر على حيوية المدينة ويثقل حركتها، كما هو الحاصل هذه الأيام، فتأثير الأزمة المالية الحالية على مدن الخليج العربي سوف يتفاقم لو أننا تصورنا أن القيمة العقارية للمشاريع العملاقة التي تم تنفيذها في هذه المدن انهارت (وهي مؤهلة لذلك فقد تراجعت قيمة العقارات في دبي منذ بداية الأزمة من 20-30% )، فإن حجم الخسائر الاقتصادية سوف تكون كارثية، خصوصا وأن مدن الخليج تقوم على قاعدة اقتصادية أساسها الاستثمار العقاري (إذا ما استثنينا النفط الذي يمثل سلعة متذبذبة القيمة ولا يمكن الركون على أسعارها في أي تخطيط اقتصادي بعيد المدى). أما الكارثة الأكبر هي عندما يغادر السكان غير المواطنين هذه المدن، فعندها سوف تصبح خالية مقارنة بالتوسع العمراني الكبير الذي حدث فيها(وهذا أسوأ سيناريو يمكن أن تمر به مدن الخليج خصوصا تلك التي يوجد بها خلل في التركيبة السكانية ويغلب على سكانها الوافدين). سوف تتحول هذه المدن في هذه الحالة إلى مدن أشباح لأنه حتى السكان المحليين لن يستطيعوا العيش فيها. هذا التصور الكارثي مستبعد في الوقت الراهن لكنه ممكن أن يحدث في المستقبل لو استمرت الأزمة الحالية وتقلصت الفرص الوظيفية وأصبح العيش في هذه المدن غير مجدٍ لمن أتى إليها بحثا عن العمل أو لفرص كسب الثروة السهلة التي كانت متاحة في السابق.
التأثير السلبي الذي أحدثته المشاريع الكبرى في مدن الخليج لايمكن تجاهله، إلا أن التراجع للوراء كذلك أصبح أكثر تكلفة ولعل هذا ما أحدثته الأزمة المالية الحالية التي أدت إلى توقف كثير من المشاريع العمرانية نتيجة لغياب التمويل اللازم، خصوصا تلك المشاريع المرتبطة بالقطاع الخاص. والحقيقة أن توقف هذه المشاريع يقلل من الحيوية الاقتصادية المدينية التي كانت تعتمد على توفر فرص العمل وارتفاع الأجور كعوامل تجذب المؤهلين من الخارج إليها (لقد تراجع معدل الأجور في القطاع الخاص 20% على أقل تقدير منذ بداية الأزمة). والواضح أن التراجع الذي سوف تحدثه الأزمة المالية في مدن الخليج سوف يتجاوز البيئة العمرانية إلى تراجع النمو السكاني (المفتعل) وبالتالي يمكن أن تتشكل سلسلة من التراجعات التي قد تؤدي إلى ركود اقتصادي وعمراني طويل.
والحقيقة أن سبب الأزمات التي عانت ويمكن أن تعاني منها مدن الخليج هو أنها تفتقر إلى «المشاركة العامة» Public Participation في عملية اتخاذ القرار العمراني التي تمس المدينة ومستقبلها، فقد نشأت هذه المدن كمدن «فردية» تشكلت نتيجة لقرارت فردية لمن يدير المدينة، دون أي مشاركة تذكر لمن يسكنها، الأمر الذي جعل جميع خطط التنمية العمرانية شبه مفصولة عمن يستخدم المدينة. فإذا أتت الخطط منسجمة مع السكان فهو أمر غير مخطط له بشكل كامل وغالبا ما كانت الخطط على عكس ما يتمنى سكان هذه المدن الذين يجبرون على تقبلها فليس لهم خيار آخر. المدينة في الخليج هي مشروع أو فكرة من يديرها لا من يسكنها لذلك لم يكن مستغربا أن تكون هذه المدينة بمحتوى ثقافي ضحل وأن تتحول مع الوقت إلى مجرد فضاء عمراني يجمع مجموعة من الناس لا تربطهم أي معايير وقيم اجتماعية وثقافية ولغوية مشتركة (وهذه ليست مبالغة فهناك مدن خليجية يصعب أن نقول إنها مدن تقع في الجزيرة العربية).
ويتركز غياب السكان في التأثير على نمو المدينة في وجود ما يسمى بالعلاقة «الباردة» بين المدينة ومن يستخدمها الأمر الذي يجعل من المدينة مجرد فضاء للعمل لا للحياة ويؤدي مع الوقت إلى ظهور «تكلسات» في الذاكرة التي تجعل من سكان المدينة يفقدون الحس بقيمة المكان، فأي مكان آخر يمكن أن يصبح مدينتهم المستقبلية وبالتالي تصبح المدينة هشة لاتستطيع مقاومة الأزمات لأنها لاتملك سكانا متمسكين بها. فكل المدن تملك طنواة سكانية تحمي الذاكرة والثقافية المدينية المحلية أما المحيط السكاني المتغير فهذا يعطي المدينة حيويتها ويسمح لها بالحركة لكنه لا يصنع ذاكرتها وثقافتها. في مدن الخليج العربي الأمر أسوأ من ذلك كون سكانها أصلا لاتربطهم بها أي عاطفة ولا يوجد سوى رابطة المصلحة التي يمكن أن تنفك في أي لحظة، وبالتالي فإن هذه المدن يمكن أن تخسر سكانها المحليين نتيجة لاستبعادهم عن المشاركة في بنائها وسكانها المستوردين في حالة تراجعها الاقتصادي المحتمل في السنوات القادمة.
مدن الخليج العربي تحتاج أن تكون «مدن ديموقراطية»، ويجب أن تكون مدن «كل من يسكنها» لا مدينة «من يديرها». تحتاج المدينة إلى أن تكون هم الجميع ونتيجة للتنمية التي يقوم بها الجميع لاحلم فردي يشكلها كيفما يشاء. وحتى تكون هذه المدن ديموقراطية يجب إصلاح مؤسسات المدينة وأسلوب إدارتها المحلية وربطها بشكل مباشر بالسكان، بحيث يكون هناك مشاركة اجتماعية مباشرة في كل القرارات العمرانية وعدم تجزئة المدينة إلى مشاريع إستراتيجية (خارج المحاسبة) ومشاريع يمكن طرحها على المجالس البلدية كما تقوم به حاليا بعض المدن في الخليج. تفعيل مؤسسات المدينة يتمثل في إعطائها كل الصلاحيات الرقابية التي تتيح لها التدخل في الوقت المناسب لأن هذا الدور يمثل العنصر الأكثر غيابا في هذه المدن.

.,._