استخدامات الفيمتو ثانية

استخدامات الفيمتو ثانية

أكثر من مجرد “كليك”!
مجلة (التدريب والتقنية). العدد 85¡ فبراير 2006

ذهبت أول جائزة نوبل في الفيزياء إلى الألماني (كارل رونتيغن) عام 1901
بفضل اكتشافه للأشعة السينية – أشعة إكس… والتي لم تكن في الواقع أكثر
من وسيلة تصوير متقدمة. ثم كانت أول نوبل علمية للعرب بعدها بـ 98 عاماً
هي تلك التي حصدها (أحمد زويل) عن تقنيته للتصوير الفائق في زمن الفيمتو
ثانية.

بين (إكس – رونتغن) و (فيمتو ثانية – زويل) يمتد تاريخ عريض من تقنيات
التصوير العلمية التي كان وجه العلم والحضارة سيتغير تماماً بدونها. لكن
أهمية التصوير في التاريخ البشري تبرزها تطبيقات أبسط بكثير من الفتوح
العلمية التي جاء بها الرجلان. فكاميرات التصوير العادية التي تتكدس في
بيوتنا باتت تمثل ما يشبه الذاكرة البشرية التي ستنقل تاريخنا للأجيال
القادمة على نحو أفض بمراحل مما فعلته الأشعار أوراق البردي ومنحوتات
الغرانيت مع أسلافنا. والتصوير السينمائي جاء ليعيد صياغة التجربة
البشرية ويعيد تعريف الأدب والدراما وليقدم بدوره تاريخاً موثقاً كان له
الدور الأبرز في صقل الشخصية الإنسانية المعاصرة عبر التلفزيون والسينما
وحتى عبر أفلام الفديو العائلية. ويمثل التصوير الرقمي حلقة جديدة في
العلاقة بين الإنسان والصورة التي بدأتها نقوش الكهوف القديمة. وسائط
التصوير والتخزين الرقمية وصلت بالعملية لدرجة من البساطة جعلت من كل
مواطن عادي محترف تصوير… على نحو أوسع بكثير مما فعلته أفلام (الكوداك)
وتقنيات (بولارويد) الفورية العتيدة. وهكذا نجح التصوير في الارتقاء
بناحية تقنية بحتة صاعداً بها إلى خانة (الفن)… وهو إنجاز فذ يحتسب
لذاته. وفيما تتوقف شركات آلات التصوير عن إنتاج الكاميرات الفيلمية
للأبد… تتواتر الأنباء عن قرب توافر تقنيات التصوير ثلاثي الأبعاد على نحو
تجاري رخيص خلال سنوات قليلة قادمة.

بالعودة للجانب العلمي البحت لنعمة التصوير¡ تعالوا نحاول إحصاء بعض
التطبيقات العلمية التي تدين بالكثير للعدسات والأفلام وللصورة ككل. هناك
أولاً الطب الذي رفدت الأشعة السينية إياها فرع العظام منه قبل أن يتم
إدراج تقنيات أخرى في عمليات المناظير وكشف الخلايا السرطانية وتصوير
المواليد وفي كل تطبيق جراحي يمكن تخيله تقرباً. التصوير يفرض ذاته بشكل
أو بآخر حيثما كان هناك مختبر و (مجهر). والصورة المرئية تبدو كإثبات
حقيقي يضاهي إن لم يتفوق على كل الحسابات الرياضية اللازمة لتأكيد نظريات
الفيزياء والكيمياء الجامدة.

خارج النطاق الذرة والخلية وانطلاقاً في الكون الرحب كانت الصورة خير
إثبات لمدى جفاف صحراء القمر. ولعدد الكواكب حول الشمس واتساع أجواز
الكون. وفيما احتاج (غاليليو) لعقود من التحديق عبر عدسات تلسكوبه ليدرك
أن الأرض هي التي تدور حول الشمس¡ فإن مسباراً واحداً فقط (هابُل) كان له
الفضل في مضاعفة المعرفة البشرية في علم الفلك خلال بضع سنوات.

يبقى هناك الكثير كي نكتشف ونشاهد. ومع تتابع فصول المعرفة البشرية
لتغضي ماهو أضأل وأسرع أو ما هو أكبر وأبعد¡ تتوالى تقنيات التصوير
الأكثر تعقيداً ومهارة. وحتى بغض النظر عن المتطلبات الدقيقة لنخبة
العلماء والبحاثة¡ يظل التطوير في علم التصوير مطلوباً من قبل أفراد
جمهور عريض متعطش للفن البصري ولتخليد ذكريات يومه وإن عبر عدسة عادية
وضغطة عابرة على زر الغالق.

أحمد زويل: التصوير على المستوى الذري

في عالم التصوير الضوئي حيث يمتزج الفن بالعلم وبالحرفية التقنية¡ تطرح
أسماء ذواتها كأعلام تستحق الإشادة. هناك (رونتغن) صاحب أول صورة بأشعة
إكس. قبله بقرون أسس (الحسن بن الهيثم) لأساسيات علم البصريات. وفي العصر
الحديث فرض الأميركي (جورج إيستمان كوداك) اسمه كرديف لكل ما يمت للتصوير
بصلة. لكننا سنتسغل الفرصة النادرة للإشادة بعَلم عربي هو الدكتور (أحمد
زويل) صاحب تقنية (الفيمتو ثانية) التي أتاحت تصوير أدق التفاعلات
الكيميائية لينال عليها جائزة (نوبل) عام 1999.

تلقى زويل تعليمه المدرسي بمدينة (دسوق) المصرية ثم التحق بكلية العلوم
بجامعة الإسكندرية وحصل منها على البكالوريوس عام 1967 بتقدير امتياز مع
مرتبة الشرف ثم على الماجستير في علم الأطياف عام 1969. سافر إلى الولايات
المتحدة الأمريكية ليحصل على الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا عام1974 وعمل
خلال هذه الفترة معيداً وزميلاً وباحثاً بنفس الجامعة ثم عمل بمعه كاليفورنيا
للتقنية (كالتك).

ويعلق زويل على ذلك قائلا عندما جئت لأمريكا وأصبحت أستاذا في واحدة من
أعظم جامعات أمريكا –كالتك- التي عينت بها في عام 76 بعد حصولي علي
الدكتوراه ودرجة زمالة من جامعة بيركلي لمدة عامين ¡ وفي عام 78 منحوني
درجة البقاء في الجامعة لمدي الحياة بينما هذه الدرجة لا تمنح لحاملها
قبل مرور خمس سنوات¡ وأعطتني الجامعة درجة أستاذ كرسي (لاينس بولينج) -
وكان لاينس بولينج قد حصل علي جائزتي نوبل في الكيمياء وفي السلام - وبهذا
أصبحت من اصغر العلماء سناً الذين انتخبوا لأكاديمية أمريكا للعلوم ومعني
هذا إنهم لم يعطوني الفرصة فقط ولكن أيضا التقدير الذي أعانني علمياً.

وفى يوم الثلاثاء 21 أكتوبر عام 1999 فاز العالم المصري د. أحمد زويل
بجائزة نوبل في الكيمياء لتمكنه من مراقبة حركة الذرات داخل الجزيئات
أثناء التفاعل الكيميائي عن طريق تقنية الليزر السريع. وقد أعربت
الأكاديمية السويدية الملكية للعلوم أنه قد تم تكريم د. زويل نتيجة
للثورة الهائلة في العلوم الكيميائية التي أحدثتها أبحاثه الرائدة في
مجال ردود الفعل الكيميائية واستخدام أشعة الليزر حيث أدت أبحاث د. زويل
إلى إيجاد ما يسمى بـ (كيمياء الفمتو ثانية) التي نشرحها بالتفصيل فيما
يلي¡ ولاستخدام آلات التصوير الفائقة السرعة لمراقبة التفاعلات الكيميائية
وذلك بسرعة الفمتو ثانية. وقد أكدت الأكاديمية السويدية في حيثيات منحها
الجائزة لأحمد زويل إن هذا الاكتشاف قد أحدث ثورة في علم الكيمياء وفي
العلوم المرتبطة به¡ إذ أن البحوث التي قام بها تسمح لنا بأن نفهم وبأن
نتنبأ بالتفاعلات المهمة.

ولا يزال زويل يعمل حاليا كأستاذ للكيمياء الفيزيائية في معهد كاليفورنيا
للتقنية وهو يحتفظ بجنسيته المصرية إلي جانب الجنسية الأمريكية التي
اكتسبها منذ سنوات. وقد حصل زويل قبل نيله نوبل على العديد من الدرجات
العلمية منها زمالة جامعة (بيركلي) عام 1975 ثم عمل أستاذاً مساعداً
للطبيعة الكيميائية بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في باسادينا عام 1976
حتى عام 1978 ثم أستاذاً مشاركاً للفيزياء الكيميائية بنفس المعهد حتى عام
1982 ثم عمل أستاذاً للطبيعة الكيميائية من 1982 حتى الآن وفى عام 1981
حصل على جائزة بحوث الكيمياء المتميزة من مؤسسة (ان ار سى) ببلجيكا
واختارته الجمعية الأمريكية للطبيعة لزمالتها عام 1982. وفى عام 1981 حصل
على جائزة وكالة ناسا للفضاء. كما حصل على جائزة المؤسسة القومية
الأمريكية للعلوم خلال عامي 1982 و 1984 ثم حصل على جائزة الملك فيصل في
الطبيعة عام 1989 وجائزة هوكست 1990 وفى نفس العام تم اختياره الشخصية
المصرية الأمريكية¡ كما منحته جامعة أكسفورد الدكتوراه الفخرية عام 1991.
وفى عام 1993 منحته الجامعة الأمريكية بالقاهرة الدكتوراه في العلوم
وأخيرا تم منحه وشاح النيل عام 1994 . وقد رشح د.احمد زويل لنيل جائزة
نوبل أكثر من مرة وللدكتور "أحمد زويل " مجموعة من الأجهزة المسجلة باسمه
وأربعة كتب علمية ¡ وما يزيد عن 250 بحثا علميا في مجالات الليزر.

تقنيات التصوير: فن اللعب بالضوء

بتطرقنا لـ (تقنيات التصوير) فإننا لن نتناول بالضرورة أنواع الكاميرات
الرقمية التي باتت تزيح أسلافها الفيلمية عن الساحة. لن نتكلم هنا عن عدد
(الميغا بيكسلات) في الكادر أو كيفية عمل (مستشعرات) تلك الآلات الرقمية.
الحديث عن تقنيات التصوير سيأخذنا إلى استكشاف الآفاق العلمية التي تُسهم
فيها الصور المرئية بأكثر مما تفعل النظريات والمعادلات الرياضية
المعقدة… ولتظل القدرة على التقاط ثمة صور إبداعاً علمياً بذاتها!

ستغطي مادة هذا فرعين أساسيين علهما يغطيان كامل طيف التصوير العلمي:
تصوير الأجرام السماوية¡ وتقنيات تصوير الأجسام الذريّة.

تصوير الفضاء: النظر للماضي

يظل التطلع للفضاء هو وسيلتنا الوحيدة للآن للسفر عبر الزمن والتطلع فعلاً
لمنظر ينتمي للماضي. فالسنوات الضوئية التي تمثل بعد النجوم عنا ليست
سوى الزمن الذي يستغرقه وصول ضوئها إلينا.

بالنسبة للتصوير الفضائي¡ تلعب الأقمار الاصطناعية والمسابر الدور المحوري
في هذا المجال. كونها تحلق بحرية في الخواء متجررة من الغلاف الجوي الذي
يعيق عمل التليسكوبات الأرضية. ويبز اسم المسبار أو المنظار الفضائي
(هابُل) كأبز أداة تصوير فضائي على الإطلاق.

فمنذ إطلاقه من على متن المكوك الفضائي الأميركي عام 1990¡ التقط هذا
المنظار الفضائي أوضح وأروع الصور الكونية التي رأتها العين البشرية على
الإطلاق.

يحمل منظار الفضاء هابُل اسم عالم الفلك الأميركي (إدوين بي هابُل – Edwin
Hubble) (1889 -1953) الذي حقق اكتشافات مهمة في عشرينات القرن الماضي
غيّرت من مفهومنا عن الكون. وباستخدامه لأكثر أشكال التقنية تطوراً ¡ اكتشف
هابُل أن الغيوم الباهتة الكثيرة في السماء ليست نجوماً بل مجرات بعيدة
خارج مجرّة درب التبّانة¡ وأن كلاً منها يحتوي على ملايين النجوم. وفجأة
اكتشفت البشرية أن الكون أكبر بكثير مما كانت تظن! كما اكتشف هابُل أنه
كلما نأت مجرّة ما عن الأرض كلما زادت سرعتها عبر الفضاء¡ وهو ما يُعرف
اليوم بثابتة هابُل. وقد أدى هذا الفهم إلى بروز فكرة الكون المتمدد (أو
الكون الآخذ في الاتساع) ثم إلى نظرية “الانفجار العظيم” عن أصل الكون.

لقد رصد منظار هابُل مشاهد يتعذر رصدها عبر أقوى المناظير الأرضية. ومع أن
الهواء ليس ملموسا¡ فإنك عندما تنظر عبر كيلومترات من الغلاف الجوي¡ يصبح
كثيفا كالماء. فالفوارق في حرارة الهواء وكثافته تشوه الضوء¡ وتجعل
النجوم لامعة ومتلألئة.

يملك هابُل¡ الذي يدور على ارتفاع 569 كيلومترا فوق سطح الأرض¡ رؤية واضحة
للكون. وهو يسافر بسرعة تفوق الـ28 ألف كيلومتر في الساعة¡ ويدور دورة
كاملة حول الكوكب كل 97 دقيقة¡ ويجمع الضوء بمرآته الأساسية البالغ قطرها
2.4 متراً.

تحافظ (جيروسكوبات) وهي أدوات شديدة الدقة تُبقي التلسكوب مُصوّبا على
الهدف بدقة تبلغ 0.007 ثانية قوسية على ثبات المنظار الفضائي وتمكّنه من
التركيز على نقطة في باريس بحجم قطعة معدنية صغيرة وعدم الانحراف عنها
حتى ولو كان المنظار في لندن.

وينتج المنظار 10 إلى 15 غيغابايت من الصور والبيانات العلمية كل يوم.
وقد التقط أكثر من 700 ألف صورة خلابة لسحب ضخمة من الغاز المضيء¡
ولمجموعة متنوعة من المجرات والأجسام غير المألوفة¡ ولولادة النجوم وموتها.

ويعتبر هابُل هو المرصد الأكثر شهرة بين أربعة “مراصد عظيمة” وضعتها وكالة
الفضاء القومية الأميركية (ناسا) في مدار حول الأرض لدراسة الكون من خلال
موجات ضوئية مختلفة. ويعمل أحد المناظير في نطاق الأشعة دون الحمراء من
طيف الألوان¡ ويكشف منظار آخر الأشعة السينية¡ ويدرس منظار ثالث أشعة
(غاما) المتحركة. أما هابُل¡ المنظار الوحيد الذي يعمل في الطيف المرئي
للضوء¡ فهو أجودها.

وتقضي إحدى المهام الرئيسية للمنظار الفضائي بقياس المسافات بدقة في
الكون. ويتيح هذا للعلماء احتساب سرعة توسع الكون المعروفة بثابتة هابُل
التي تحدد بدورها عمر الكون.

فوفقاً لتلك النظرية¡ ولد الكون بانفجار ضخم¡ وهو يتوسع منذ ذلك الحين.
وطيلة سنوات¡ ظن العلماء أن ذلك حصل قبل 10 إلى 20 مليار عام. غير أن
هابُل حصر عمر الكون بما بين 12 و15 مليار عام. وتحدد المشاهدات الحديثة
عمر الكون بـ13.5 مليار عام¡ بزيادة أو نقصان مليار عام.

النتائج العلمية التي يمكن التوصل لها عبر المناظير الفضائية مثل هابل لا
متناهية. فقد أراد العلماء أن يعرفوا ما يمكن رؤيته في الفراغ. فتم في
شهر ديسمبر 1995¡ تصويب هابُل إلى جزء مظلم وفارغ في الفضاء. وتم تركيز
المنظار على بقعة صغيرة يبدو أنها خالية من النجوم والمجرات¡ وهي منطقة
بحجم عُشر قطر القمر.
وأبقيت كوة التلسكوب مفتوحة لفترة طويلة - مليون ثانية أو أكثر من عشرة
أيام- لجمع أكبر كمية ممكنة من الضوء. وبعد تثبيت هابُل بجيروسكوبات
دقيقة¡ راح يسبر أغوار الظلمة الحالكة لالتقاط أضعف ضوء تم تسجيله.
وعندما نظر العلماء إلى الصورة¡ ذُهلوا لرؤيتهم حقلا مكتظا بالمجرات يشمل
أكثر من 10 آلاف مجرة في هذه البقعة الصغيرة من السماء (الفارغة).

خلال السنوات الـ15 الماضية¡ قطع هابُل أكثر من 3 مليارات ميل. الآن وقد
أشرفت مهمته على نهايتها¡ فإن مستقبل هابُل غير أكيد. لقد مُنع المكوك
الفضائي من استئناف مهمته الفضائية بعد تحطم مكوك كولومبيا في
شباط/فبراير 2003¡ وفي السنة التالية ألغت ناسا مهمة لصيانة هابُل كان
مقررا إجراؤها عام 2006.
ومن المفترض سحب المكوك الفضائي من الخدمة بحلول عام 2010. هذا العامل
الدؤوب الذي خدم البرنامج الفضائي الأميركي ومحطة الفضاء الدولية لأكثر من
عقدين¡ قائم على تكنولوجيا السبعينات. وتطور ناسا الجيل التالي من
المركبات الفضائية¡ التي قد لا تصبح جاهزة للعمل قبل عام 2014¡ ما يعني
أن برنامج الفضاء الأميركي سيتوقف عن العمل طيلة أربع سنوات.

من الناحية التكنولوجية¡ ما زال في هابُل رمق. فوكالة ناسا تميل
إلى “الإفراط في هندسة” مشاريعها متخذةً الكثير من التدابير الوقائية
الإضافية. مسبارا فوياجر 1 و2¡ اللذان أطلقا عام 1977¡ لا يزالان يعملان
ويبثان إشارات ضعيفة رغم أنهما تخطيا مهلة عملهما بسنوات.

لقد تجاوز المسباران مدار أبعد كوكب وهما أول آلتين من صنع الإنسان
تغادران النظام الشمسي. وسيسافران لمدة 50 ألف عام على الأقل قبل أن يصلا
إلى نجم آخر.

ويأمل الكثير من العلماء في إنقاذ هابُل. قد يعمّر المنظار الفضائي سنوات
إضافية إنْ أرسلت بعثات لصيانته.
وقد طُرح اقتراح لصيانة المنظار الفضائي على أيدي رجال آليين¡ لكن
العملية مكلفة جدا وأكثر تعقيدا مما تتيحه التكنولوجيا الحالية. وقد
أشارت ناسا إلى إمكانية إرسال بعثة لصيانة هابُل عام 2007¡ لكن تمويل
المشروع قد يكون صعبا. “الأمر يبدو ميؤوسا منه”¡ كما يقول نول.

التصوير الذري… سباق في الضآلة

على النقيض تماماً من المقاييس الفلكية التي يعمل بها (هابل) وسواه من
آلات التصوير الفضائية¡ يعكف فريق آخر من العلماء على تصوير العالم
المجهول الذي تمثله الجسيمات الذرية بالغة الضآلة… عبر وحدات زمنية
ضئيلة جداً بدورها.

فعندما استطاع العالم العربي (أحمد زويل) مع فريقه البحثي أن يصل إلى
رصد تفاعلات كيميائية تحدث في واحد على مليون من بليون من الثانية… وهو
ما سُمِّي بـ (الفيمتو ثانية) ونسبة هذه المدة إلى الثانية الواحدة تعادل
نسبة الثانية الواحدة في عمر الزمن إلى 32 مليون سنة¡ اهتز المجتمع
العلمي واعتبر إنجاز العالم العربي فتحًا جديدًا استحق عنه جائزة نوبل
بجدارة. لكن مسيرة العلم لا تتوقف, وثمة حديث الآن عن (الأتو ثانية) وهي
تساوي جزءًا على بليون من بليون من الثانية!

لقد تأكد العلماء أنه كلما صغرت الفترة الزمنية, زادت صعوبة متابعة
الأحداث. وقد أدى اكتشاف الليزر في الستينيات من القرن العشرين, إلى دفع
العلماء خطوات للأمام في ملاحقتهم لتلك الأحداث. وأكثر أنواع الليزر شيوعًا
تعمل بإثارة ذرّات لغاز خامل مثل النيون (وهناك ليزرات أخرى تعمل بأجسام
صلبة مثل الياقوت الصناعي أو حتى بصبغات عضوية), وعندما تحدث حالة
(استرخاء) لتلك الذرات وتعود إلكتروناتها إلى مواضعها الأصليّة¡ يتوهّج
الغاز بطول موجيّ مميز للضوء سواء كان مرئيًا أو موجات دقيقة أو أحمر أو
أزرق. ويتوقف هذا على الذرّة المثارة. ويدفع الليزر موجات الضوء إلى
الانطلاق بشكل متوافق ومنسق مع تركيز الوهج في شكل حزمة كثيفة من الضوء,
تتسم بالنقاء والتماسك.

وفي أواخر الثمانينيات من القرن العشرين, وصلت نبضة الليزر في القصر إلى
6 فيمتو ثانية, وبينما كان الباحثون قديمًا يضطرون إلى ملاحظة الصور التي
تُلتقط قبل التفاعلات الكيميائية وبعدها, يمكنهم الآن رصد صور بطيئة لعملية
التفاعل ذاتها.

ومنذ ذلك الوقت بدأ العلم الجديد المسمى (كيمياء الفيمتو) يركّز على
كيفية حدوث التمثيل الضوئي في النباتات وغير ذلك من التفاعلات الكيميائية
الجزئيّة. وفي عام 1999 نجح زويل في إجراء سلسلة من التجارب الرائعة التي
أوضحت كيف يتم تحطيم الروابط الكيميائية ثم إعادة تكوينها خلال فترة
زمنية تتراوح بين 100 - 200 فيمتو ثانية. ونبضة الفيمتو ثانية مفيدة
للغاية في حفر ثقوب بالغة الدّقة, ولأن طاقتها تتبدد بسرعة, فليس هناك وقت
كاف للمادة المحيطة لكي تسخن وبالتالي يقل الاضطراب وتزداد الفاعلية.
وتستخدم حاليا نبضات الفيمتو ثانية لحفر مسالك دقيقة للغاية داخل ألواح
زجاجية خاصة, وهو تطور يمكن أن يُحدث ثورة في مجاليّ تخزين البيانات
والاتصالات السلكية واللاسلكية. ويعكف الآن الباحثون في استخدامات الفيمتو
ثانية, على تطوير وسيلة جديدة لإجراء جراحات في العيون بأشعة الليزر,
تؤثر مباشرة في القرنيّة دون أن تتلف النسيج الذي فوقها. وأخيرا تم
استخدام تقنية الفيمتو ثانية لتفسير الكفاءة الرائعة التي تتم بها بعض
تفاعلات التمثيل الضوئي في النبات. إن الوحدة الجوهرية في تجميع
البروتينات التي تتحكم في عملية التمثيل الضوئي هي مجموعة من الجزيئات,
تمثل قلب التفاعل, تحفّز التفاعلات التي تحول طاقة الشمس إلى طاقة
كيميائية لازمة لإنشاء المادة العضوية وتحيط بهذه الوحدة شبكة من
البروتينات, تتكون أساسًا من اليخضور (الكلوروفيل) وعندما تسقط أشعة
الشمس على هذه البروتينات, تقوم بامتصاص فوتوناتها الضوئية, ثم توجه
طاقتها تجاه مركز التفاعل.

إن هذا التوجيه هو الذي يسحر عقول الكيميائيين. فالعملية تبدأ بامتصاص
جزئي من اليخضور لفوتون ضوئي, وعندئذ يحصل على طاقة من الفوتون. بيد أن
تلك الطاقة تتحول إلى جزيء يخضوري مجاور يمررها بدوره إلى جزيء يخضوري
ثالث وهلم جرا. وبهذه الطريقة تقفز طاقة الفوتون ما بين جزيئات اليخضور
حتى تصل إلى مركز التفاعل.

وبينما تنتقل الطاقة خلال شبكة جزيئات اليخضور, فإنها تغيّر من طريقة
امتصاصها وإطلاقها للضوء, ويسمح ذلك بالكشف عن الطاقة المتدفّقة. وقد تتبع
العلماء حركة الطاقة تجاه مركز التفاعل, وأوضحوا أن (القفزات) بين
الجزيئات حدثت في بضع مئات من الفيمتو ثانية, ولكن لم يكن بوسع هؤلاء
العلماء الإمساك بالطاقة, وهي تتحرك من جزيء إلى آخر.

وأدت السهولة والكفاءة التي تقوم المنظومات الدقيقة للتمثيل الضوئي
بتوجيه الطاقة بها تجاه مركز التفاعل, إلى محاولة بعض الكيميائيين
ابتكار مماثلات صناعية لها. ويأمل الباحثون في إمكان الاستفادة من الطاقة
الكيميائية, التي تولّدها تلك المنظومات لحفز عملية تخليق جزيئات عضوية
مفيدة مثل الوقود. وربما سوف تنقضي سنوات قبل أن ينجح العلماء في محاجاة
ما صنعته الطبيعة في بلايين السنين, إلا أن الباحثين يعتقدون أنهم سوف
يتمكنون في نهاية الأمر من صنع منظومات فعّالة, تكون بمنزلة بوابة للإكثار
من إنتاج المحصولات الزراعية.

وباختصار فإن الفيمتو ثانية تعتبر فترة زمنية رائعة بالنسبة للتعامل مع
الذرّات والجزيئات الكاملة. أما بالنسبة للفيزيائي المهتم بالإلكترونات
التي هي أصغر وأخف وأسرع بكثير من الأنوية الذرّية التي تدور حولها, فإن
المقياس الزمني (الفيمتو ثانية) يعد بطيئًا جدا, ولذلك فهم مهتمون
بالتقدم خطوة أخرى إلى الأمام في اتجاه (الأتو ثانية.

لكن على الرغم من ثورة الاكتشافات العلمية التي تحققت بفضل تقنيات
الفيمتو ثانية, فإن بعض جوانب الكيمياء مازالت عسيرة المنال. فمهما كانت
نبضة الاستكشاف المستخدمة, فإن كاميرا الفيمتو ثانية لا تقدم لنا سوى
القليل من المعلومات عن مواضع الإلكترونات داخل مداراتها حول أنوية الذرات
.

وطبقًا للنظريات التقليدية, فإن الإلكترون يدور حول نواة ذرة الهيدروجين
في كسر من الفيمتو ثانية, وعلى ذلك فإننا نحتاج إلى نبضات لا تتعدى بضع
مئات من الأتو ثانية لتتبع كل إلكترون في الذرّة. وإذا أمكن توليد نبضات
تستمر لعدة أتوات ثانية, فإن عددًا من الظواهر الجديدة سوف يتيسر
اكتشافها, وأحد الأمثلة على ذلك: سلوك الإلكترونات في الجزيئات المثارة,
فالجزيء يكون أكثر ميلاً للتفاعل الكيميائي عندما تكون أحد إلكتروناته في
حالة إثارة. إلا أن الإلكترون قد يعود مرة أخرى إلى حالته الأصلية قبل حدوث
التفاعل. ومن الممكن أن تساعد دراسة حركات الإلكترونات المثارة في تفسير
سبب حدوث بعض التفاعلات الكيميائية بينما يفشل بعضها الآخر في تحقيق ذلك.

خلال العام الماضي 2005 أعلن العلماء في (معهد التكنولوجيا) بفيينا
بالنمسا, أنهم نجحوا لأول مرة في توليد ومضات أشعة سينية (أشعة إكس)
منفصلة تستمر لمدة تقاس بالأتو ثانية. والومضات المعلن عنها - التي تستمر
لنحو 650 أتو ثانية - (كامنة) في الأشعة السينية بالطيف الكهرومغناطيسي,
أثمرت فيما بعد عن أخذ قياسات بالأتو ثانية لظاهرة فيزيائية معينة, هي
انفصال إلكترون عن ذرة, إثر (ضربها) بفوتون (وحدة الضوء) من الأشعة
السينية.

ومن واقع تلك التجربة وما سبقها من تجارب قامت بها جماعات بحث أخرى,
أصبحت (فيزياء الأتو) في طليعة المجالات الفيزيائية, التي تتعامل مع أصغر
وحدات قياس للزمن. كما أن (كيمياء الأتو) صارت حديث ما بعد (كيمياء
الفيمتو) التي ابتكرها عالمنا العربي الكبير د.أحمد زويل.

ومثلما يمكن للمصباح الومضيّ بآلة التصوير أن يعطي لقطات ساكنة لقطرة
ماء ساقطة, فإن نبضات الفيمتو ثانية يمكنها أن تسجل مراحل التفاعل
الكيميائي فائقة السرعة بين الجزيئات بعضها البعض, أما نبضات الأتو ثانية
فإنها ترصد الحركات الأكثر سرعة للإلكترونات داخل الذرة, وفور إمساك
الفيزيائيين لنبضة أتو ثانية, تأكدوا من فائدتها لهم. وصوّب العلماء نبضة
أتو ثانية إلى ذرات غاز الكربتون, فأثارت نبضة الأتو ثانية ذرّات الكربتون
وانتزعت منها إلكتروناتها. ثم تمكن العلماء من الحصول على قياس دقيق
للغاية, في حدود بضعة أتوات ثانية, للمدة التي يحتاج إليها الإلكترون لكي
يضمحل وهو تحوّل يقترن بانبعاث طاقة, ولم يكن ممكنا أبدا من قبل دراسة
الخصائص الديناميكية (القوى المحركة) للإلكترونات من خلال مقياس زمني بالغ
الضآلة إلى هذا الحد

وحوّلت تلك التجربة عالم الفيزياء إلى خلية نحل, إذ أصبحت الإلكترونات
الآن مجالا للبحث والاستكشاف للأسرار الغامضة للمادة, لقد بدأ عصر (فيزياء
الأتو ثانية ليس فقط في تتبع تلك العمليات, ولكن أيضًا في السيطرة على
(استرخاء) الذرة بعد (إثارتها) (أي زيادة طاقتها نتيجة لامتصاصها فوتونات
أو نتيجة لحدوث تصادم بها), وهذا مثير جدًا, فعلى سبيل المثال فبالسيطرة
على الطريقة التي تُطلق بها الذرات أشعة إكس من خلال مقياس الأتو ثانية
يمكن تصميم جهاز ليزر يستخدم أشعة إكس, وهو حلم طالما راود مخيلة
الفيزيائيين.

كما أن صناعة أشباه الموصلات والترانزستورات والمعدات الإلكترونية الأخرى
مثل رقائق الكمبيوترات التي نحتاج دائما إلى زيادة سرعتها, سوف تستفيد
بالطبع من مقياس الأتو ثانية فائق الصغر. كما سوف تتيح تطبيقات كيمياء
الأتو اكتشافات مذهلة في المجالات الطبية والمواد الوراثية (دنا ورنا)
والأحماض الأمينية والهندسة الوراثية وابتكار أدوية جديدة أكثر فاعلية,
بعد دراسة دقيقية لتفاعلاتها مع الخلايا بوساطة تقنيات الأتو ثانية.

ويدرك العلماء أن كل قدم تقني آخر, يؤدي إلى نبضات أصغر من الأتو ثانية,
سوف يثمر في النهاية تطورًا علميًا هائلاً, وهذه بالضبط الخطوة التالية. وفي
يوم ما - لعله ليس بعيدًا جدًا في المستقبل - حتى الأتو ثانية بالغة
السرعة, سوف تقتصر على تحقيق بعض الأهداف المرجوة, وسوف تبدو الإلكترونات
(بطيئة وكسولة)! وكلما تمكن العلماء من سبر غور كيانات أصغر وأصغر من
المادة, الكواركات - على سبيل المثال - التي تكون بروتونات ونيترونات
نواة الذرة, فإن العمليات الفيزيائية تصبح أسرع بكثير, ومن ثم فإن
المقياس الزمني سيكون على الأرجح - في نطاق (الزيبتو ثانية) أي واحد من
ألف بليون من بليون من الثانية! وهناك جهاز ليزر يتم تصميمه في الوقت
الحالي أطلق عليه (ليزترون) ليستخدم في إصدار (الزيبتو ثانية).

وربما تتساءل: هل الزيبتو ثانية هو آخر المطاف في الإبحار في دياجير
الزمن البالغ الضآلة¿ لن يتوقف العلم عند حدود معينة, بل سوف يتجاوزها
إلى ما يفوق خيالنا العلمي. وسيكون الزمن المتناهي الصغر في بؤرة الأبحاث
العلمية المستقبلية, وسيحصل الباحثون في هذا المجال على المزيد من جوائز
نوبل في الفيزياء والكيمياء, ونتمنى أن يكون بينهم علماء عرب.

أهم المصادر:

1- كامل مادة (تصوير الفضاء: النظر للماضي) نقلاً عن مقال: (نافذة الأرض
على عوالم مجهولة) بقلم (بروس غولدفارب). مجلة (هاي) عدد ديسمبر 2005.

2- كامل مادة (التصوير الذري… سباق الضآلة) نقلاً عن مقال: (مابعد
زويل… إطلالة على عالم الأتوثانية) بقلم (رءوف وصفي). محلة (العربي) عدد
فبراير 2005