قراءة فى كتاب
د. خالد عزب
خروجًا عن المعتاد يجئ كتاب “الحجر والصولجان… السياسة والعمارة الإسلامية” ليقدم لنا رؤية للعلاقة بين البينية بين السياسة والعمارة، لاشك أنها جريئة وتشكل حدثًا يستحق أن نقف عنده كثيرًا، المؤلف ذكر في مقدمة كتابه أن جدلاً ثار حول مادة هذا الكتاب حينما قدمها كجزء من أطروحته لمناقشتها كاد يفضي إلى عدم مناقشة الرسالة، حيث أصدرت لجنة أصرت لجنة التحكيم على حذف كافة فصول هذا الكتاب، ينطلق من إثارة تساؤلات حول العمارة الإسلامية والسلطة بمكوناتها المختلفة… السلطان ورجاله… المجتمع وقواه الفاعلة والخاملة… المبادئ الحاكمة للعلاقة بين الطرفين، تفاعلات متبادلة تعكس روح كل عصر وطبيعته. فجدلية العلاقة فرضت وجود مؤسسة الأوقاف التي من المفترض أنها تؤدى دورًا مهمًّا، يوازي بعض أدوار الدولة المعاصرة حاليًا، وبعض أدوار المجتمع المدني المعاصر، لكن انظر كيف كان وعي أهل الصولجان لكيفية توظيف هذه المؤسسة لتأمين معاش دائم لذريتهم، حيث إن الأوقاف محرم شرعًا مصادرتها، ومن ناحية أخرى لتوظيف العلماء ليكونوا موظفين لدى السلطة يأتمرون بأمر الواقف صاحب السلطة، هكذا جاءت العديد من المنشآت الدينية لتعبر في الوقت ذاته عن هيبة الدولة وعظمتها وقوتها، كما نرى في مدرسة السلطان حسن وجامع محمد علي.
كانت الأوقاف هي المحرك الوحيد لحركة العمران داخل المجتمع والواسطة بين السلطة بثرائها، والتجار وثرائهم، وبين الفقراء من خلال تقديمها للخدمات الاجتماعية إلى المجتمع، فلم يكن في القديم للدولة دور في تقديم الخدمات الاجتماعية بل يتوقف دورها عند حفظ الأنفس وإقامة المشاريع الكبرى التي تضمن زيادة ريع الدولة من الضرائب كشق الترع وإقامة الجسور والسدود وتأمين الطرق، ولما كانت الأوقاف تنبع من المجتمع وإليه فقد حقق المجتمع استقلالية نسبية في شئونه.
في هذا الكتاب سيجد القارئ محاولة لاستكشاف معامل القيمة ودوره في العمارة الإسلامية، فهذا المعامل هو أخلاقي رفيع نراه في أحكام طبقت من خلال فقه العمارة، فأنتجت صياغات جمالية من حيث مظهرها، لكن هذه الجمالية الشكلية تحمل في طياتها مضمونًا قيميًّا غير ظاهر للعيان، لكن الدراسة الدقيقة تكشف عنه، وعلى هذا فالفرد المتلقي للعمارة هو إنسان مرهف الحس يدرك ما تحمله من معان مركبة، وسيجد القارئ تارة نفسه بين طرز معمارية مختلفة من دولة لدولة كل منها يحمل بين جنباته سمة هذه الدولة أو تلك، وتعكس العمارة هيبة الدولة وقدرتها بل تعكس قدرة الدولة الاقتصادية وإرادتها السياسية. هكذا تتحدث العمارة فهي ليست حجرًا بل رداء للحياة وذاكرة حية للمجتمعات.
تعددت المناهج التي درست العمارة الإسلامية، ومعظمها درس من منظور بسيط غير مركب، وهو ما أدى إلى أحادية النظرة لهذه العمارة، وبالتالي قصور في إدراك ماهيتها. وكانت معظم الدراسات خلال العقود الماضية تركز على الدراسة الوصفية التي ترسم الشكل المعماري من خلال الكلمات، دون البحث عن البنية التي صاغت هذه العمارة ونحتت زخارفها المبهرة نحتًا يخطف الأبصار، أو تأصيل عناصرها المعمارية و الزخرفية إلى أن تصل أحيانًا بها إلى عمارة ما قبل الإسلام، دون أن يدرك هذا المنهج التأصيلي أن هناك بوتقة صهرت فيها هذه العناصر، وأعيد إنتاجها مرة أخرى بما يتوافق مع روح الحضارة الإسلامية، بطريقة تحمل في أغلب الأحوال إبداعًا يفوق ابتكار العنصر نفسه,إذن فنحن أمام عدد من مستويات الدراسة ومحدداتها لكي نستطيع أن ندرس العمارة الإسلامية، وأول هذه المحددات هو تحديد بنية العمارة الإسلامية، ونحن نقصد هنا بالبنية العلاقة المتشابكة بين المكونات المادية والفكرية للعمارة، فالبنية هنا تربط بين الكل الواقعي أو تجمع أجزاءه، لذا فهي تعد القانون الذي يضبط هذه العلاقة.
يجب هنا التميز بين (البنية السطحية) و(البنية العميقة)، فالبنية السطحية هي كل هيكل الشيء ووحدته المادية الظاهرة، أما البنية العميقة فهي كامنة في صميم الشيء، وهي التي تمنح الظاهرة هويتها وتضفي عليها خصوصيتها. وعادة ما يعي المرء إدراك البنية السطحية المادية المباشرة، فإدراكها أمر متيسر، أما إدراك البنية الكامنة فهو أمر أكثر صعوبة، يتطلب استخدام الحواس وإعمال العقل والخيال والحدس. لذا عادة ما يعيش البشر داخل بُنى اجتماعية وتاريخية واقتصادية يستنبطونها فتؤثر في سلوكهم وتشكيل رؤيتهم للكون وتحدد خطابهم الحضاري دون وعي منهم.
لذا لكي نصل إلى بنية العمارة الإسلامية، يجب أن نفك هذه العمارة، ونعيد تركيبها مرة أخرى، وعبارة فك الشيء تعني فصله وفرق أجزاءه بعضها عن بعض، وعكسها (ركب الشيء) أي جعل الشيء بعضه فوق بعض وضمه إلى غيره÷ وهذه العملية تهدف إلى فصل مكونات العمارة، ثم إعادة ضمها إلى بعضها من خلال نموذج تفسيري يوضح هذه العملية، وبذلك يمكن الوصول إلى ماهية العمارة الإسلامية.
وتعتمد هذه الدراسة في بناء النموذج التفسيري على دراسة العلاقة بين التحول السياسي، والذي يعني انتقال السلطة من جماعة سياسية إلى أخرى، وهو ما يطلق عليه ابن خلدون العصبية السياسية التي تقوم عليها الدول، على نحو ما حدث من انتقال للسلطة من الأيوبيين إلى المماليك في مصر، ومن المماليك إلى العثمانيين ثم إلى محمد علي وأسرته.
وهذا الانتقال عادة ما يصاحبه تغير في نمط أو طرز العمارة وفي تخطيط المدن، ولا يكون مثل هذا التغير سريع الحدوث، بل يأخذ وقتًا من الزمن، وهذا ما عبر عنه ابن خلدون (في أن رسوخ الصنائع في الأمصار، إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها). ونستطيع أن نترجم هذه العبارة معماريًا بأن الطراز المعماري المميز لأي عصر لابد له من وقت لكي تتضح معالمه، وهذا التميز المصاحب لأي طراز لابد وأن ينشأ في ظل استقرار سياسي يتيح للمعماري الإبداع.
وهناك ثلاثة مستويات من البني تحدد العلاقة بين العمارة والسياسة:
المستوى الأول: العمارة كشاهد سياسي، وهو يمثل البنية السطحية، وفي هذا المستوى تكون العمارة سجلاً للعديد من الأحداث السياسية التي مرت عليها، أو حدثت في المنشأ المعماري، أو تركت أثرها عليها، ومن أمثلة ذلك باب زويلة الذي شيد في العصر الفاطمي ليكون أحد أبواب حصن القاهرة مقر حكم الفاطميين بالعاصمة المصرية، وكان ذا وظيفة حربية، إذ أنه كان يغلق على الحصن الذي كان يضم قصور الفاطميين ومسجدهم الجامع وجندهم ومواليهم.
ولكن… منذ عام 658هـ/1259م، حين وسط المظفر قطز أحد سلاطين المماليك أحد رسل التتار بظاهر باب زويلة، ثم علق رءوس رسل التتار الأربعة على باب زويلة. اكتسب الباب منذ ذلك الوقت وظيفة سلطوية سياسية خاصة مع تلاشي دوره الحربي، وتوالت حوادث الإعدام عليه، منذ ذلك الحين حتى القرن التاسع عشر الميلادي، وأعدم السلطان المملوكي طومان باي آخر سلاطين المماليك على هذا الباب، وكان هذا الإعدام رمزًا لبداية عصر العثمانيين في مصر ونهاية عصر المماليك. وفي العصر العثماني وعصر محمد علي توالت عمليات تنفيذ حكم الإعدام على هذا الباب حتى عصر الخديوي إسماعيل. كان لجلوس متولي الحسبة بالقاهرة عند هذا الباب أثره في تغير اسمه لدى العامة إلى باب المتولي. وبمرور الوقت نسى الناس السبب الحقيقي لهذه التسمية، وتصوروا أن المقصود بالمتولي أحد الأولياء الصالحين، ومن ثم ظل هذا الباب يتقرب إليه بعض العامة بربط الخرق بمساميره.
كما يسعى السلاطين بإثبات انتصاراتهم على عمائرهم بصورة أو بأخرى لتكون شاهدًا على هذه الانتصارات،ومن ذلك تعليق خوذة ملك قبرص علي باب مدرسة السلطان الأشرف برسباي بالقاهرة والتي انتهي من تشييدها عام 829 هـ / 1425م ، وهي السنة التي فتحت فيها قبرص .وظلت هذه الخوذة باقية حتي القرن 11 هـ / 17 م .
المستوي الثاني: الرمزية السياسية للعمارة ، وهو يمثل أحد جانبي البنية العميقة .في هذا المستوي تجسد العمارة قوة الدولة وتوجهاتها السياسية.ومثل هذا النوع من العمائر شاع في العمارة الإسلامية . تتمثل هذه الرمزية في عدد من المدلولات المعمارية ،يحمل بعضها مضمونا حضاريا وبعضها الآخر مضمونا سلطويا سياسيا ، ويجمع بينهما أحيانا بعض العمائر ذات الدلالات المتعددة . تعد قبة الصخرة والحرم القدسي الشريف حولها أبرز العمائر التي تحمل مضامين حضارية . يعود تشييد القبة إلي العصر الأموي ، الذي شهد نزاعا حضاريا بين الدولة الأموية والدولة البيزنطية علي السيطرة علي العالم القديم ،اتخذ هذا النزاع صورا متعددة . منها تعريب طراز أوراق البردي التي كانت تصنع في مصر.وتعريب للنقود في إطار سياسة رسمها عبد الملك بن مروان الهدف منها إرضاء الشعور الديني والسياسي للمسلمين ، ورغبته في إعادة حق ضرب النقود إلي الخلافة في شخص الخليفة كمظهر من مظاهر الملك والسلطان بعد أن انتزع حق ضرب النقود كثير من الولاة والثائرين فكان الإصلاح النقدي سببا مهما في القضاء علي الفوضى السائدة تحقيقا للاستقرار السياسي .فضلا عن أن النقد العربي الخالص يعبر عن سيادة الدولة وخروجها من تحت عباءة النفوذ الاقتصادي البيزنطي ،لذا اتجه عبد الملك إلي الاستقلال الاقتصادي بتعريب النقود ، فضلا عما يتيحه هذا من توحيد النظام النقدي في دولة تمتد عبر مساحات شاسعة من الأراضي .
اتجه عبد الملك بن مروان في إطار هذا المخطط الشامل إلي العمارة التي ترمز إلي سيادة الدولة واتجاهها الفكري ، ففي القدس تبني مشروعا ذا طابع سياسي ديني حضاري ، يرتكز علي الاهتمام بعمارة الحرم القدسي الشريف خاصة قبة الصخرة والمسجد الأقصى ، لارتباط هذا الحرم بالعقيدة الإسلامية فهو أول القبلتين ، وفيه صلي الرسول ( صلي الله عليه وسلم ) بالأنبياء واليه كان إسراؤه ومنه كان معراجه . ولما كانت عمارة الحرم آنذاك بسيطة لا تتناسب مع ما حولها من كنائس ،خاصة كنيسة القيامة المقدسة لدي المسيحيين ، وما قد تحدثه عمارة الكنائس في نفوس بعض المسلمين ، ورغبة عبد الملك في إثبات الهوية الحضارية الجديدة للمدينة . تبني مشروع عمارة قبة الصخرة والمسجد الأقصى .
ويلفت الانتباه من هذا المشروع قبة الصخرة ،إبراز آثار الحرم ، فهي تعد أول عمل معماري واع لعظمته بل متباه بها ، انتهي من بنائها عام 72 هـ / 692 م .
وهي تري من مسافات بعيدة ، وهي مبنية فوق صخرة مقدسة ، حولها ممران يدوران حولها بمسقط مثمن ،شامخة في الهواء في مركز الحرم القدسي علي تل من تلال القدس .
الرمزية السياسية لعمائر القاهرة :
نري هذا يتكرر في القاهرة أيضا ، حينما اختار السلطان الكامل الأيوبي أن يشيد دار الحديث الكاملية في داخل القاهرة الفاطمية وعلي قصبتها العظمي ، ليأتي الصالح أيوب من بعده ليشيد مدرسته عام 647 هـ /1249 م . علي جزء من القصر الشرقي الفاطمي ،لتستمر بذلك الأهمية السياسية لهذا الموقع الذي تأكد بإلحاق شجرة الدر ضريح للصالح بالمدرسة عام 648 هـ /1250 م . وذلك وفاء لزوجها السلطان ، ولكي تذكر مماليكه بولائهم له ولها بالتبعية ، وشيدت لنفسها قبة بالتبعية ، وشيدت لنفسها قبة ضريحية بالقرب من مشهد السيدة نفيسة حملت ألقابا لها دلالات سياسية تعبر عن الفترة التي استبدت فيها بحكم مصر بعد وفاة تورانشاه بن الصالح نجم الدين أيوب . كان موقع مدرسة الصالح أيوب جزءا من القصر الشرقي الفاطمي الكبير ، وهو ما أتاح للظاهر بيبرس البندقداري فرصة لكي يختار جزءا من القصر لكي يشيد عليه مدرسته إلي جوار مدرسة الصالح ، معلنا بذلك بداية تسابق علي هذه المنطقة لتشييد المنشآت السلطانية ، ولكي يكرس إعلانه لقيام دولة المماليك علي أنقاض الدولة الأيوبية ، ومثلت هذه المدرسة تطورا إضافيا في عمارة المدارس في مصر وملحقاتها ، اذ ضمت كتابا وسبيلا لخدمة المارة ألحقا بها .
د.خالد عزب
الناشر: دار الشروق 2007.
عدد الصفحات: 290 صفحة.
المقاس 17×24سم.