بعض من الأدلةُ على أن القرآنَ من عند الله تعالى

بعض من الأدلةُ على أن القرآنَ من عند الله تعالى.

الأدلةُ على أن القرآنَ من عند الله تعالى.

نقدِّمُ – اليومَ- حوارًا حول القرآن الكريم وأدلةِ صدقه.

مينا : الآن جاء دوري لأسألكَ, لماذا تقولُ أنَّ القرآنَ كلامُ الله – تعالى-؟
أحمد: الأدلةُ كثيرةٌ , سأضعُ بعضَها, ثم ناقشنِي في كلِّ دليلٍ إن شئت, واعلم أنَّ الأدلةَ مرتبطةٌ ببعضها يقوي بعضُها البعضَ الآخرَ, بمعنى أنه إن لم تشعرْ ببلاغة القرآن لعدم معرفتك الجيدة باللغة العربية؛ فهذا لا يعني تجاهلَ الأدلة الأخرى.
الأمورُ الدالةُ على أن القرآن كلام الله:
1- كونه عند العرب في الدرجة العالية من البلاغة التي لم يُعْهَدْ مثلها؛ وذلك للأسباب الآتية:
أ- أنه لا يحوي إلا الصدقَ، ومنزّهٌ عن الكذب في جميعه، وكلُّ كاتب أو شاعر تركَ الكذبَ والتزمَ الصدقَ نَزَلَتْ كتابتُه، والقرآنُ جاءَ فصيحًا مع التنزه عن الكذب.
ب - أنه اقتصر على توجيب العبادات وتحريم القبائح والحث على مكارم الأخلاق وترك الدنيا واختيار الآخرة، وأمثالُ هذه الأمور تُوجِبُ تقليلَ الفصاحة.
ج- القرآنُ في أغلب المواضع يأتي بلفظٍ يسيرٍ متضمنًا لمعنى كبير، مثل قوله – تعالى-: } وَلَكُمْ في القِصَاصِ حَيَاةٌ { فالقولُ لفظُه يسيرٌ ومعناه كثيرٌ. بالإضافة إلى كونه بليغًا مشتملًا على المطابقةِ بين المعنيين المتقابلين، وهما: القصاص والحياة. وعلى الغرابةِ؛ بجعل القتل الذي هو ضدُّ للحياة ؛ ظرفًا وسببًا لها.
2- تكوينه وأسلوبه المخالف لفنون الشعر والنثر؛ مما جعلَ الشعراءَ المشهورين مع حذاقتهم في أسرار الكلام وشدة عداوتهم للإسلام؛ لم يجدوا في بلاغة القرآن وفصاحته مجالًا للنقد، بل اعترفوا أنه ليس من جنس خُطَبِ الخطباء وشِعْرِ الشعراء، ونسَبُوه – تارةً- إلى السحر، وقالوا – تارةً- لأصحابهم: } لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ {، وهذا أسلوبُ الضعيفِ الواهي الحجة.
مينا: قبل أن تكملَ، عندي بعضُ الأسئلة عما سبق أجِبْ عليها، ثم أكمِلْ أدلتَك.
أولًا: ما دليلُك على أن العربَ لم يعارضوا القرآن ولم يأتوا بمثله, فربما أتوا بمثله وتمَّ التخلصُ منهم ومما كتبوا, فالمسلمون هم الذين كتبُوا التاريخَ؟
ثانيًا: أنا لا أعرفُ اللغة العربية جيدًا؛ فلماذا يتحدَّاني القرآنُ ويتحدَّى الآخرين في أمرٍ لا يعرفوه جيدًا, وإلا فإنَّ معنَى هذا أن القرآن موجهٌ للعرب فقط.
أحمد: أولًا: معلومٌ لكلِّ منصفٍ عاقلٍ أن عربَ الجزيرة العربية كانوا أكثرَ الناس بلاغةً وحذاقةً في اللغة, بالإضافة إلى ما عُرِفَ عنهم مِن حبِّ المباراةِ والتباهي والتنافسِ والعصبية والحمية الجاهلية.
وعندما نزل القرآنُ الكريمُ واستمر نزولُه لمدة تتعدَى العشرين عامًا, تحدَّاهم وتحدَّى مِن بعدهم, فإن كانوا قد عجَزُوا عن الإتيانِ بمثله فعَجْزُ مَنْ هم أقلُّ منهم مهارةً أكبرُ وأشدُّ؛ لأنه إن عجزَ الأقوياءُ والمهرةُ عن فعل شيء, فالأقلُ منهم قوةً والأقلُّ منهم مهارةً هم بالتأكيد أكثرُ عجزًا.
لذلك فإن عجزَ أصحاب اللغة يشمل عجزَ غير أصحاب اللغة, يضاف إلى ذلك أن القرآنَ الكريمَ ليس نظمًا لغويًا فقط، بل إن فيه – أيضًا- إخبارًا بالغيب, وفيه إشاراتٌ علميةٌ لم تكن معلومةً في حينها, كما أن القرآن ارتبط بالرسول - عليه الصلاة والسلام- الذي رأى المعاصرون له دلائلَ نبوتِهِ المتمثلةِ في أخلاقه وصفاته ومعجزاته الحسية التي أجراها اللهُ – تعالى- على يده, وأخبرهم - صلى الله عليه وسلم- بكثيرٍ من أمور الغيب مما علمه الله – تعالى-, والغيبُ هو كلُّ ما يغيب عن المرء, سواء كان أمرًا حدث أو يحدث بعيدًا عنهم أو أمرًا لم يحدث بعد, بل سيأتي في المستقبلِ.
وقد كان أمام المتحدين عدَّةُ اختيارات؛ الأول: أن يأتوا بمثل القرآن, والثاني: أن يحاربوا الرسولَ - عليه الصلاة والسلام-, والثالث: أن يؤمنوا به ويحاربون معه ويبذلون المالَ والجهدَ للالتزام بالدين, فلو كان الإتيانُ بمثله أمرًا متيسرًا لاستغنوا عن الأمرَيْنِ الشاقين بالأمر السهل, ولو كان الرسولُ - عليه الصلاة والسلام- استعان بغيرِه أو اقتبسَ من غيره لاقتبسُوا أو استعانوا بمثل ما استعان به.
ثانيًا: الدليلُ على أنهم لم يأتوا بمثله ولم يعارضوه معارضةً ذاتَ بال هو كما يلي:
أ – نقلت لنا السيرةُ والتاريخُ الإسلاميُّ كلَّ الأخبار التي حدثت ولم تتم تنقيةُ الأخبار المنقولة؛ والدليلُ على ذلك ما تمَّ نقلُه عن الأذى الذي تعرّض له الرسولُ - عليه الصلاة والسلام- في الطائف, وعن حادثة سحر الرسول - عليه الصلاة والسلام-, وحديث رضاع الكبير, وعن حادثة الإفك, وعن معركة الجمل وغيرها من أمورٍ دقيقةٍ تعرَّضَ لها المسلمون، ولو كان التاريخُ تمَّ تنقيتُه لحُذفَتْ, ولكنها نُقلت بحذافيرها.
ب – لم يجرؤ أيٌّ من المستشرقين الذين درسُوا القرآن الكريم وتعرَّضُوا له بالشبهات بكل وسيلة؛ أن يقول أنه حدثت معارضةٌ للقرآن أو أنهم أتوا بمثله.
ج – لو كانوا أتوا بمثل القرآن لما آمن به المزيدُ والمزيدُ في موطنه حيثُ جيء بمثله!
د – لا يزال البابُ مفتوحًا للإتيان بمثله كما أشرنا من قبل, ولكن بعد معرفةِ بعض خصائص القرآن الكريم التي سنذكرُ بعضَها فيما يلي.
مينا: حسنًا, أكمِلْ وسأتدخلُ عندما أجدُ أهميةً للتدخل.
أحمد: من الأدلة على صدق القرآن الكريم:
3- إخبارُ القرآن بحوادث آتية وُجدَتْ بعد ذلك على الوجه الذي أخبرَ بها، مثل:
أ – قول الله – تعالى-: } إِذَا جَاء نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجًا { [النصر:1- 2]. والمرادُ بالفتح فتحُ مكة، فهذه السورة نزلت قبل فتح مكة، فحصل فتحُ مكة ودخل الناسُ في الإسلام فوجًا بعد فوج.
ب - قول الله - تعالى- في سورة الروم: } غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْض { } وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ { أي: الفرس } فِي بِضْعِ سِنِينَ { أي: ما بين الثلاث والعشر } لله الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {، وحدثَ ما أخبر به القرآنُ الكريمُ.
4- إخبار القرآن بأحوال القرون والأمم السالفة، وقد عُلِمَ أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- كان أميًّا ما قرأ ولا كتب.
مينا: عندي ثلاثةُ أسئلة:
الأول: ما الدليلُ على أنه لم يكن يقرأ ويكتب ويعرف أخبار الأمم السابقة؟
ثانيًا: لماذا لا يكون القرآنُ مقتبسًا من كتبٍ سابقةٍ ،أو ساعدَهُ فيه وَرَقَةُ بنُ نوفل؟
ثالثًا: أنت تقولُ أن القرآن تنبأ بهزيمة الفرس من الروم خلال أقل من عشر سنوات كما في التفاسير, ولكنَّ الواقعَ يشيرُ إلى أن المعركةَ التي انتصر فيها الفرسُ كانت (614) ميلادية, وأن اكتمالَ نصر الروم على الفرس كان في عام (628) ميلادية؛ أي: بعد أربعة عشر عامًا, كما تقولون أن أدنَى الأرض ممكن أن تعنِي أخفض نقطة على سطح الأرض، وتقولون أن في هذا إعجازًا، بينما المفسرون القدامى قالوا أن أدنى الأرض تعنِي أقرب أرض الروم إلى الجزيرة العربية, فما ردُّك؟
أحمد: أولًا: الإلمامُ بالقراءة والكتابة في وقت الرسالة لم يكن من السهل إخفاؤه, فكلُّ مَنْ يعرف القراءة والكتابة يُعلم من عَلمه, كذلك حجم الكتب في ذلك الوقت كان كبيرًا مما يجعل من المستحيل نقلُ كتابٍ من مكان إلى آخر بدون معرفة العديد من الناس, ولو رأيتَ صورَ مصحف عثمان في المتحف لوجدت أنه لا يمكن لفرد واحد حملُه.
ثانيًا: القرآنُ الكريمُ - كما أشرنا ولم ننته بعد- له خصائصُ وصفاتٌ غيرُ موجودة في أيِّ كتاب، فكيف يكون مقتبسًا مما هو أقل منه فصاحةً ونظمًا وتشريعًا؟!, وكيف يكون مقتبسًا وهو يُنبئ بغيبٍ ويتحدَّى أن يأتُوا بمثله؟!, ولو كان مُقتبسًا لاقتبسوا مثلَه, أما وَرَقَةُ بن نوفل فقد توفي في أول البعثة، واستمر نزولُ القرآن حسب الأحوال والمناسبات لمدة تزيد على عشرين عامًا, أما ما يذكره بعضُ الجهلة عن بحيرة الراهب فالقصةُ تقول أنه قابلَ الرسولَ - عليه الصلاة والسلام- قبل البعثة بثلاثين عامًا لدقائق في مكانٍ بالقرب من الشام وسط تجمعٍ كبيرٍ من رجال قريش؛ فكيف يكون علَّمَه أيَّ شيءٍ؟, وهذه الأسباب لو كانت منطقيةً لما آمن به مَنْ كانوا حوله.
ثالثًا: مِن المعلوم أن الرسولَ - عليه الصلاة والسلام- شهدَ له المنصفون - ولو كانوا غيرَ مسلمين- بالحكمة وحسن القيادة، ودليلُهم على ذلك جمعُه للمؤمنين أمةً واحدةً، واستمرارُ هذه الأمة واستمرارُ انتشار تعاليمها؛ لذلك إن لم يكن نبيًا فإنه من غير المعقول أن يغامرَ بثقة أصحابه فيه ويخبرهم بأمر يحدث بعد حوالي تسع سنوات مثل فوز الروم على الفرس, وهو غيرُ واثقٍ تمام الثقة منه. أما تفصيلُ الأمر فإنه حسب الموسوعة البريطانية تحت عنوان الدولة البيزنطية؛ فإن هزيمةَ الروم حدثت في العام (614) ميلادي، وقالت الموسوعة أن الروم استطاعوا هزيمة الفرس في ثلاث معارك متتالية كانت أولها في العام (622)، وأدَّتْ لطرد الفرس من آسيا الوسطى, وكانت آخرُها في العام (628)، وانتهت بدخول الروم عاصمة الفرس؛ لذلك فالفترة بين هزيمة الروم وبين أول انتصار كبير أدَّى لطرد أعدائهم من آسيا الصغرى هو (8) سنوات, وهو قولُ الله – تعالى-: “في بضع سنين”.
أما عن قول المفسرين أن المقصودَ بأدنى الأرض هو أقربُ أرض الروم إلى العرب وهي منطقة الأردن, فهذا لا يخالفُ التفسيرَ الذي يقول أنه ربما المقصود بأدنى الأرض أخفض نقطة في الأرض كما أشارت الاكتشافاتُ العلميةُ؛ فقالت أن منطقة البحر الميت هي أخفضُ نقطةٍ على سطح الكرة الأرضية, ومن المعروف أن أدنَى في اللغة تأتي بمعنى أقرب وبمعنى أسفل، كما اعتدنا كتابة “نحن الموقعين أدناه”؛ أي: “نحن الموقعين أسفله”.
مينا: حسنًا, أكمِلْ وسأتدخلُ عندما أجد أهميةً للتدخل.
أحمد: مِن الأدلة على صدقِ القرآن الكريم:
5- ما فيه من كشف أسرار المنافقين؛ حيث كانوا يتواطئون في السرِّ، وكان الله يُطْلع رسولَه على تلك الأحوال ويخبره عنها على سبيل التفصيل؛ فكان هذا دليلًا وتأكيدًا على صدق نبوة الرسول وصدق وحي القرآن.
6- كون القرآن الكريم بريئًا عن الاختلاف مع أنه كتابٌ كبيرٌ مشتملٌ على أنواع كثيرة من العلوم، فلو كان ذلك من عند غير الله لوقعَتْ فيه أنواعٌ من الكلمات المتناقضة.
7- تيسير حفظه لمتعلمه, فهو الكتابُ الوحيدُ الذي يحفظه عشراتُ الملايين, منهم مَنْ هم دون السادسة ومنهم مَنْ هم فوق الثمانين, قال – تعالى-: “وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ”[القمر : 17].
8- أسلوبُ القرآن الكريم يخالفُ مخالفةً تامةً أسلوبَ الرسول - عليه الصلاة والسلام-، وَمِن المتعذر على الشخص الواحد أن يكون له في بيانه أسلوبان يختلف أحدُهما عن الآخر اختلافًا جذريًا يستمر بهما لمدة تزيد على العشرين عامًا.
فالقارئ يشعرُ عند قراءته لأحاديث الرسول أنه أمام شخصية بشرية تعتريها الخشيةُ والضعفُ أمام الله – تعالى-؛ بخلاف القرآن الكريم الذي يتراءى للقارئ من خلال آياتِهِ قوةً قويةً مسيطرةً رحيمةً عادلةً خالقةً حكيمةً.
9- لو كان القرآنُ الكريمُ من إنتاج عقل بشري، فإنه يتوقع أن يَذْكُرَ فيه شيئًا عن عقلية مؤلفه ومما يتعرض له من مواقف وأزمات, فلا يمكن أن يكون الرسولُ - عليه الصلاة والسلام- هو مؤلّفُ القرآن ولا نجد بالقرآن أيَّ شيءٍ عن أم المؤمنين خديجة أو عائشة أو جده أو أمه أو ابنه الذي توفي وبكى عليه حزنًا قائلًا: «وإنا لفراقك - يا إبراهيم- لمحزونون». فالقارئُ للقرآن يجد أن هناك انفصالًا كاملًا بين حياةِ الرسول - عليه الصلاة والسلام- الشخصيةِ وبين ما جاء في القرآن الكريم, إلا فيما يتعلق بالجوانب التي نزلت فيها تشريعاتٌ للأمة في خطابٍ موجَّهٍ للرسول - عليه الصلاة والسلام-.
10- يحتوي القرآن على كثير من الإشارات العلمية، مثل:
أ- ضيق الصدر كلما صعدنا لأعلى؛ وذلك لقلة نسبة الأوكسجين, في قول الله – تعالى-: } فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء …{ [الأنعام: 125].
ب- دور الرياح في عملية تكوين السحاب أو نقل حبوب اللقاح, في قول الله – تعالى-:} وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ { [الحجر:22].
ج- اختلاف الشمس عن القمر؛ بأن الشمس هي مصدرٌ للضوء, في قول الله – تعالى-: } هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا …{ [يونس: 5].
11- بالرغم من أن نشأة الإسلام كانت بعيدةً عن الحضارة الفرعونية إلا أن القرآنَ الكريمَ أخبر بنجاة جسد فرعون, وتمَّ اكتشافُ نجاة الجسد بعد أكثر من (1300) عام؛ فقد ذكر الله – تعالى- عن فرعون موسى بعد أن غرق في البحر } فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ { [يونس: 92], وعندما تمت دراسةُ مومياء (منفتاح) التي يظن أنها لفرعون موسى في فرنسا بواسطة فريقٍ من علماء التشريح توصلوا إلى أن سببَ وفاته هو الغرقُ، والقرآنُ هو الكتابُ الوحيد الذي ذكر بقاءَ جثة فرعون محفوظةً بعد غرقه؛ فهل كان محمدٌ - عليه الصلاة والسلام- على علم ببراعة المصريين في التحنيط, وبأن الجسد باقٍ وسيتم اكتشافُه بعد أكثر من ألف عام؟!
وقد عكف الدكتورُ (موريس بوكاي) رئيس الفريق الفرنسي على دراسة القرآن والإنجيل والتوراة لسنوات، ثم أسلم وألف كتابًا سمِّيَ (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم الحديث) لاقى انتشارًا واسعًا وتُرْجِمَ لعدة لغات.
مينا: الأفضلُ أن تحدثني عن تحريف القرآن، وكيف حرَقَ عثمانُ المصاحفَ كلَّها وفرضَ عليهم مصحفَه, وتحدثني عن تنقيط المصحف الذي لم يكن موجودًا وتمَّ وضعُه في أيام عبد الملك بن مروان, وتحدثني عن الحروف المقطعة في أول السور.
أحمد: فليكن همُّك هو معرفةُ هل القرآنُ كلامُ الله أم لا ؟؛ وذلك من خلال معرفة أدلةِ صدقه, أما نقاشُك في التحريف فنقاشٌ لا معنى له, فإنْ كنت لا تعتقد أنه من عند الله فلا يعنيك البحث في التحريف, فلقد حفظَ اللهُ – تعالى- كتابه بتيسير حفظه في الصدور, وبنقلِه مشافهةً من شخصٍ إلى شخصٍ حتى وصل إلينا, اقرأ قول الله تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ …الآية [العنكبوت : 49] , واقرأ الحديثَ الذي جاء فيه أن رسولَ الله - عليه الصلاة والسلام- قال إن الله تعالى قال له: " وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ " ([1])؛ فظهر أن الأصلَ في حفظ الكتاب هو حفظُه في الصدور, وهذا معنى “لا يغسله الماء”. أما التدوينُ والكتابةُ فهي عاملٌ مسَاعِدٌ لحفظه وليست هي أصلَ الحفظ؛ لذلك عند الحديث عن جمع القرآن وحرق المصاحف الآخرى يجب معرفةُ الآتي:
أ- لفظ المصحف كان يطلق على أي ورقة بها جزءٌ من القرآن ولو كانت آيةً؛ لذلك مصاحف الصحابة لا يعني أنها تحوي قرآنًا كاملًا بل ربما تحوي آياتٍ أو سورًا, وربما آيات كتب معها تفسيرُها، مثل: “حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر”, فالعبارة “صلاة العصر” ليست من القرآن، بل هي تفسيرٌ لقول الله – تعالى-: الصلاة الوسطى.
ب- قال الشيخُ ابنُ باز - رحمه الله- في مجموع الفتاوى - بتصرفٍ يسيرٍ-: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم-: « إنَّ هَذَا القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ منه» ([2]), وقال المحققون من أهل العلم: إنها متقاربةٌ في المعنى مختلفةٌ في الألفاظ. وعثمانُ - رضي الله عنه- لما بلغه اختلافُ الناس، استشارَ الصحابةَ الموجودين في زمانه كعليٍّ وطلحةَ والزبيرِ وغيرِهم، فأشاروا بجمع القرآن على حرفٍ واحدٍ حتى لا يختلفَ الناسُ، فكوَّنَ لجنةً لهذا, فجمعوا القرآنَ على حرفٍ واحدٍ، وكتبه ووزّعه في الأقاليم حتى يعتمدَه الناسُ وحتى ينقطعَ النزاعُ. أما القراءاتُ فهي موجودةٌ في نفس ما جمعه عثمان - رضي الله عنه- في زيادة حرف أو نقص حرف أو مد أو شكل للقرآن، فالمقصودُ من الجمع على حرفٍ واحدٍ هو حفظُ كلام الله ومنعُ الناس من الاختلاف الذي قد يضرهم ويسبب الفتنة بينهم. واللهُ - جلَّ وعلا- لم يُوجِبْ القراءة بالأحرف السبعة؛ بل كما جاء في الحديث السابق: «فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ»؛ لذلك فإنَّ جمعَ الناس على حرفٍ واحدٍ عملٌ طيبٌ يُشْكَرُ عليه عثمانُ والصحابةُ.
ثالثًا: جُمِعَ المصحفُ بوجود آلاف من الصحابة يحفظون القرآن الكريم, ولم يكن هناك أيُّ اعتراض على المكتوب, بل كان اعتراضُ بعضهم على مبدأ الجمع في كتابٍ, والصحابةُ باجتماعه وجبهم للدين لم يكونوا ليتركوا باطلًا ويتغاضوا عنه.
رابعًا: لا علاقةَ بالمرة بين مقتل عثمان - رضي الله عنه- وبين جمع المصحف.
خامسًا: فيما يخص تنقيط المصحف, فأصلُ حفظِ القرآن الكريم هو حفظُ الصدور؛ لذلك فالتنقيطُ أو التشكيلُ - الذي تمَّ فيما بعد- كان بناءً على المحفوظ في الصدور, وَمَن يقرأ القرآن يعلم أن هناك أحكامًا لا يمكن كتابتُها ومستمرةٌ من قراءة الرسول - عليه الصلاة والسلام- إلى الآن, وكمثال اسْتَمِعْ لأيِّ قارئ يقرأ سورةَ القيامة, ستجده عندما يتلو قولَ الله تعالى: " وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ" [القيامة : 27], سيتوقف لمدة ثانية بعد “مِنْ” قبل أن يقول: “راق”، ويمدُّ فيها الأَلِفَ لحوالي ثانية, فكيف تكتب هذه الوقفة؟؛ لذلك فإنَّ الأصلَ هو المحفوظُ، والكتابةُ هي عاملٌ مسَاعِدٌ ينفعنا نحن المتأخرين, فهو “كِتَابٌ لا يَغْسِلُهُ المَاءُ”.
أما فيما يخصُّ الحروفَ المقطعة في أول بعضِ السور؛ فالمسلمُ لا يسأل عنها على أساس أن الصحابةَ سكتُوا عنها ولم يسألوا الرسولَ فيها, ولغيرِ المسلم نقول:
أولًا: الحروفُ المقطعةُ قال عنها بعضُ العلماء أنها لتبين للعرب أن القرآن جاء من حروف عربية مثل هذه الحروف فَأْتُوا بمثله إن استطعتم, وقالوا أنها جاءت لتبين أن أصلَ حفظ القرآن هو نقلُه المتواتر بالسماع؛ وذلك لأن (الم) تقرأ في أوائل السور: ألف لام ميم, بينما تقرأ (ألم) مثل قوله – تعالى-:“أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ” [الفجر : 6], وقالوا أنها دليلٌ على حفظ القرآن؛ لأنها نُقِلَتْ لنا كما هي بدون أن يصل الناقلون على معنى محدد لها، إلى غير ذلك من الأقوال.
ثانيًا: الحروفُ المقطعةُ ليست كلَّ القرآن؛ فهي لا تصل إلى الواحد على الألف من القرآن الكريم, وعندما نبحثُ عن أمرٍ فلنبحث في الواضح البيّن ولا نبحثُ في الأمور المتشابهة, أو فلنرد ما يتشابه علينا إلى الواضح المحكم.
مينا: كما أخبرتك أنا لا أعرفُ اللغة العربية جيدًا؛ فكيف أشعرُ بحلاوة القرآن وإعجازه؟
أحمد: هناك جوانبٌ أخرى تُظهِر إعجازَ القرآن الكريم وتثبِتُ مصدرَه الإلهي, ولو قرأته وتساءَلتَ بإخلاصِ: هل هذا الكتاب ألّفه إنسانٌ خلال عشرين عامًا، أم هو من عند الله – تعالى-؟ ستصل للإجابة, أما بالنسبة للجانب الخاص باللغة فسأعطيك أمثلةً قليلةً:
أ- القرآن يذكر قصة يأجوج ومأجوج, فيبين لنا أن السدَّ لم يستطيعوا أن يتسلقوه ولم يستطيعوا أن يهدموه, فكيف كان التعبير القرآني ؟
قال الله – تعالى-: “فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [الكهف :97]”.
فعند الحديث عن محاولتهم تسلق الحاجز, حُذِفَتْ التاءُ لتخفيف الفعل (اسْطَاعُوا)؛ فبيَّن بذلك أنهم لم يستطيعوا بالرغم من خفتهم في التسلق, وعند الحديث عن محاولتهم هدم الحاجز أعيدت التاء في (استطاعوا)؛ لتبيِّنَ الثقلَ في الهدم؛ لأن الهدمَ لا يتطلبُ الخفةَ مثل التسلق.
ب- لاحظ حرف «اللام» في الآيتين التاليتين؛ حيث قال – تعالى-: } أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ. أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ. لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ { [الواقعة:63‑65]. وفي آية ثانية: } أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ. لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ { [الواقعة: 68‑70] (أجاجًا أي: مالحًا). ففي الآية الأولى «لجعلناه حطامًا»، واللام جاءت لضرورة التوكيد؛ لأن هناك مَنْ سوف يدَّعِي بأنه يستطيع أن يُتلفَ الزرعَ كما يتلفه الخالقُ، ويجعله حطامًا, وفي الآية الثانية جاءت بدون توكيد: «جعلناه أجاجًا»؛ لأنه لن يستطيع أحدٌ من البشر أن يدَّعِي أن في مقدرته أن يُنْزِلَ مِن سحب السماء مطرًا مالحًا فلا حاجة إلى توكيد باللام.
ونفس هذه الدقة نجدُها في وصف إبراهيم - عليه السلام- لربِّه في القرآن بأنه: } وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ { [الشعراء: 81], } وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ { [الشعراء: 79].فجاء بكلمة «هو» حينما تكلم عن «الإطعام» ليؤكِّد الفعل الإلهي؛ لأنه سوف يدَّعِي المدّعون أنهم يطعمونه ويسقونه أو يستطيعون إطعامه وسقيه، على حين لن يدعي أحدٌ بأنه يستطيع أن يميته ويحييه كما يميته اللهُ ويحييه الله – تعالى-، فلم يتم وضعُ الضمير العائد على الله – تعالى-.
هذه أمثلةٌ للدقة البالغة في بناء العبارة القرآنية وفي اختيار الألفاظ واستخدام الحروف، ولا نعرف لذلك مثيلًا في تأليف أو كتاب مؤلّفٍ، ولا نجده إلا في القرآن الكريم .
ج- انظر إلى أصغرِ سورةٍ في القرآن الكريم، وهي سورةُ الكوثر:
قال الله – تعالى-: “إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)”
نجد أن: عدد آياتها (3) آيات, بذلك لا يمكن القول أنها شعر؛ لأنها أصغر من بيتين. ونجد في كل آية من آياتها عشرة حروف غير المكرر.
ونجد أن مجموع الحروف غير المكررة في الثلاث آيات (10) حروف.
والسورة تتحدث عن النحر الذي يأتي في اليوم العاشر من ذي الحجة.
ونبأت السورة بالغيب فقالت أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- سيمتد ذِكرُه, وأنَّ عدوَّه العاص بن وائل الذي قال عن الرسول - عليه الصلاة والسلام- أنه أبتر بعد وفاة ابنه القاسم؛ سينقطع نسلُه أو ذِكرُه, وهذا ما حدث فلا يزال ذِكرُ الرسول - عليه الصلاة والسلام- ولا يزال أتباعُه يذكرونه حتى قيام الساعة ولا يزال نسلُه باقيًا في آل البيت.
حروف الآيات :
الأولى : إ ن ع ط ي ك ل و ث ر.
الثانية : ف ص ل ر ب ك و ا ن ح.
الثالثة : إ ن ش ئ ك هـ و ب ت ر.
الحروف التي لم تتكرر في الآيات الثلاث: ع ط ي ث ف ص ح ش هـ ت.
فهل هذه مصادفة، أم أن هذا نظمٌ وتكوينٌ في كتاب إلهي لن يستطيعوا الإتيان بمثله؟

[1] . أخرجه مسلم (5109)، وأحمد (16837), والألباني في “الصحيحة” برقم (3599).
[2] رواه البخاري برقم (2241)، ورقم (4653)، ومسلم رقم (1354).

منقول من [هنا]

إعجاب واحد (1)

ما شاء الله لا حول ولا قوه بالله