ثقافة الإختزال
إذا كنا قد تكلمنا من قبل عن أننا بحاجة لتغيير كثير من الثقافات السائدة فينا كشعب, فلعل ثقافة الإختزال هذه من أهمها.
و لكى تكون الصورة واضحة, فلابد أن نضرب بعض الأمثلة:
-قيام بعض الملتزمين بإختزال الدين فى صورة عبادات, و فى الوقت ذاته ينسون أن الإسلام:عقيدة و شريعة و عبادات و معاملات, و للأسف الطرف الأخير فى المعادلة تجده مفقوداً بشكل عجيب عند عدد من المحسوبين على التيارات الإسلامية المختلفة, فتجدهم يُنفرون الناس بسلوكهم العنيف, أو بضيق خلقهم, و فى بعض الأحيان سوء خلقهم!!!, و يمكنك زيارة بعض المنتديات على الانترنت و مراقبة نوعية الحوار و كيفية تعامل بعض المتدينين مع المخالفين لهم فى الرأى-حتى فى الفروع و القضايا الخلافية-و حسبنا الله و نعم الوكيل.
-من جانب آخر, نجد من يختزل الدين فى الأخلاق فقط, و يهمل العبادات!!, و فى الوقت ذاته يصر على أننا يجب ألا نختزل الإسلام فى المظهر الخارجى فقط(يقصد الحجاب للنساء و اللحية للرجال), و مع أننا نتفق معه فى ذلك تمام الإتفاق, فالظاهر لابد ان يكون انعكاساً للباطن, إلا أننا نعجب لوقوعه فى نفس المأزق,يعنى الإختزال!!!
-إذا ظننا أن هذا الخطأ الشائع موجود عندنا فقط فنحن مخطئون, فما زال كثير من الناس فى الغرب ينظرون الينا بنفس النظرة الإختزالية, و هكذا فإن المسلمين أجمعين هم إرهابيون و قتلة, أما الإسلام فهو دين شرير يدعو لسفك الدماء, و بغض النظر عن من يغذى هذه النعرات و ينشر هذه ألأكاذيب فى الغرب(سواء من أعداء الإسلام بحقدهم,أو بعض المنتسبين الى الإسلام بجهلهم),فإن من يستجيب لهذه الرؤية إنما يفعل هذا لأنه أولاً يختزل المسلمين كلهم فى صورة بعض من يضر الإسلام بقلة وعيه, ثم يختزل الإسلام نفسه فى صورة أتباعه, رغم أننا فى أحيان كثيرة أبعد ما نكون عن الإلتزام بتعاليم الإسلام و أخلاقياته أصلاً.
-مثل آخر, ترى من ينقب فى التاريخ الإسلامى و لا يستخرج منه إلا أخبار الجوارى و الشعراء و الخلفاء المستهترين, تلك القصص التى يمتلىء بها كتاب الأغانى, لكنه يعمى عن دور المسلمين فى نشر العلوم, و دورهم فى الحضارة الإنسانية, و ينسى صفحات الفخر فى اليرموك و عمورية و ملاذكرد و حطين و عين جالوت, و لا يذكر إلا الصراعات المذهبية و فترات الركود.و بذلك يختزل التاريخ فى أسوأ ما فيه, و يقدمه بهذه الصورة المبتسرة, فيزيف وعى الأجيال.
-فى الحالة المصرية, فإننى أقابل أيضاً صنفين من الناس أعانى معهم كثيراً, لأنهم يختزلون الدولة فى شخص الحاكم و النظام, و بذلك ينزلقوا لمنزلقين على قدر كبير من التباين:
فهناك من يحب مصر جداً, لكنه لا يفرق بين مصر و بين حاكم مصر, فيرى أى إنتقاد للحاكم هو بمثابة إنتقاد للبلد نفسها, و كذلك أى إنتقاد لسياسة من سياسات الحكومة هو بمثابة سبة لمصر, و يتحول الى شخص يسعى لتبرير كل تصرفات الحكومة أياً كانت-حتى موضوع الضرائب العقارية و سياسة القمح و تصدير الغاز-و ذلك بطريقة يعجز عنها جهابزة الحزب الوطنى, و لى صديق عزيز من هذا النوع لا أحب الخوض معه فى السياسة لأنه لا يريد أن يتخلص من هذه الثقافة, و آخر مرة تكلمنا كدت أفقد أعصابى معه عندما بدأ فى مدح زكى بدر و أحمد عز إذ ذكرا أمامه!!
أما الفصيل الثانى,فهو أيضاً يحب مصر بشكل كبير, و أيضاً لا يفرق بين مصر و حاكمها و حكومتها, فيصب جام غضبه على البلد و أهل البلد و اللى جابوا البلد, و ينسى أن البلد و ناسها-الذين هم أهله بالمناسبة-لا يستحقون كل هذا الغضب منه, فمصر و شعبها أعظم من أن تختزل فى صورة عصابة من الفاسدين و المنتفعين و الظالمين, و من يصر على هذا الإختزال مثله كمن لم يقدر على الحمار فتشطر على البردعة(لاحظ أن تعميم وصف الفاسدين و المنتفعين و الظالمين على كل من ينتمى للحكومة هو بدوره نوع من التعميم, الذى هو نتيجة للفكر الإختزالى).
نعم, فالاختزال يؤدى بدوره الى أخطاء أخرى, و التى منها تعميم الأحكام بصورة عشوائية, فكل الناس على خطأ, أو كلهم يغرقون فى الفساد, أو كل الناس لاتفهم, و هى فعلاً طريقة ظريفة جداً لكى يريح الإنسان دماغه و لا يفكر, و يجلس مثل الباشا و يدين الجميع.
الإختزال يسبب قصوراً فى الرؤية, و من ثم قصوراً فى الفهم, و القرارات التى تبنى على الصورة الإختزالية هى قرارات خاطئة بالضرورة, لأنها قائمة على رؤية جزء من الحقيقة, فهذا هو المعنى الحرفى للإختزال:أن ترى الحقيقة فى صورة مبتسرة,ثم تضع كل البيض فى نفس السلة.
من جانب الآخر, يؤدى الاختزال الى تطرف فى الفكر, نعم فعندما أرى جزءاً من الحقيقة و أقتنع به فإنى أتطرف فكرياً, و أعادى من يخالفنى فى الرأى, و تشتد الخصومة اذا كان يعانى من نفس الرؤية القاصرة, و فى النهاية لا ندرى أن كل منا يختزل الواقع و يعتقد انه يمتلك الحقيقة كلها!!!
إذاً, عندما يرشق عدد من الفلسطينيين حرس حدودنا بالحجارة, و يحاولون اقتحام الحدود, و يعبرونها فعلاً, فإن الشعب الفلسطينى كله معتدى و لا يحفظ الجميل لمصر, بل و يريد احتلالها!!
و عندما نجد بعض التافهين يكتبون السموم عن مصر فى مقالاتهم و صحفهم, و نجد تافهين آخرين يعاملون المصريين بنوع من الصلف و التعالى, فإن كل العرب جرب, و مصر أشرف من أن تنتسب لهم!!!
أما عندما يتورط بضعة شباب من أبناء سيناء فى التفجيرات الارهابية-التى نعلم من وراءها-فإن أهل سيناء كلهم يختزلوا فى هذه الحفنة من الشباب ليصبحوا جميعاً عملاء و مهربى مخدرات و بلا انتماء, و لا حول و لا قوة الا بالله.
و أحب أن ألفت النظر أن النظرة الاختزالية غالباً ما تؤدى بصاحبها الى الوقوع فى براثن اليأس و الاحباط, فلا يرى الا النصف الفارغ من الكوب, و يعجز عن رؤية أى إنجاز, و لا يرى الا الخراب و الفساد, حتى يصل لمرحلة متقدمة من هذا المرض-و متأخرة من الحالة الفكرية-يتحول فيها الى شخص رافض لتصديق أى شىء إلا الصورة المختزلة التى ثبتها فى ذهنه.
و من خطايا الإختزال أيضاً, محاسبة الأشخاص بطريقة ظالمة, فتختزل أعمالهم كلها فى عمل واحد, إما عمل عظيم فترفعه الى مصاف الأبطال ثم تبدأ فلا تقديسه, أو عمل حقير فتلعنه ما حييت, و لا تذكر عنه إلا كل سوء.
فمنا من لا يرى فى جمال عبد الناصر إلا رمزاً للقمع, و سبباً فى النكسة , و ينسى دور الرجل فى القضاء على الاستعمار و دعم حركات التحرر فى الوطن العربى و دول العالم الثالث, و بناء السد العالى.
و منا من لا يذكر للسادات إلا العبور العظيم و نصر أكتوبر و استرداد الأرض, و ينسى اعتقالات سبتمبر وخطايا الانفتاح و أحداث يناير77.
و بالمناسبة, لست من عشاق عبد الناصر, و لا الكارهين للسادات, لكنى أؤمن أن على الإنسان أن ينظر للأمور نظرة وسطية, و لا ينسف تواريخ الرجال و الأمم بإختزالها فى بعض الإنتصارات أو بعض الإنكسارات.
و عند الحديث عن الشخصيات المؤثرة, فإنى أشبه من يلوك فى سيرتها بحيث ينسب لها كل خبيث و يعمى عن أى خير, بصنف النساء المذكور فى الحديث النبوى, الصنف الذى يكفر العشير(الزوج), تعيش الدهر معه فى سعادة, فإذا رأت منه ما يسوءها قالت له:ما رأيت منك خيراً قط!!
إن الإختزال و إن كان يُمارسه البعض بلا وعى منهم, و دون قصد, إلا أن هناك من يحاول تثبيت الصورة الاختزالية فى أذهاننا لأغراض خاصة.
و فى ظل الهجوم القوى على الإسلام و المنتسبين اليه و الداعين لتطبيق الشريعة, فإن جهات كثيرة-من ضمنها الحكومة-تستعمل وسائل غير شريفة, منها أن تختزل التيار الاسلامى بكل أطيافه فى صورة الفئات المتطرفة التى تكفر المجتمع, و تستحل الدماء و الأموال, و رغم ان أى باحث منصف يدرك جيداً أن حجم هذه الفئة فى المعسكر الإسلامى ليس كبيراً-و تقلص بشدة بعد الضربات الأمنية و حركات تصحيح الفكر-لكن لتخويف الناس يتم اختزال كل الاسلاميين فى صورة الارهابى!!!
و العيب كل العيب أن تسمح لغيرك بغرس صور قاصرة و مبتسرة و مختزلة فى رأسك, فيتمكن من توجيهك كما يوجه السائس الحصان.
و جدير بالذكر أننا لا ندعى أن التيارات الاسلامية المختلفة فى الساحة تخلو من الأخطاء و الرؤى الاختزالية بدورها, لكن من الظلم بمكان أن ترمى انساناً بجرائم ارتكبها غيره.
و جدير بالذكر أيضاً أن داخل التيارات الاسلامية من يختزل التيار اليسارى كله فى صورة الشيوعيين الملحدين, و كذلك الحال بالنسبة للعلمانيين, فلا يفرقون بين العلمانى الذى يتحفظ على تطبيق الشريعة لأفكار و مخاوف معينة فى نفسه-ليس هذا المقال محل ذكرها-و بين العلمانى الذى يرفض الدين نفسه, و يستهزىء بالرسالة و النبوة.
و الذى يفوت كل هؤلاء, أن كل تيار, و كل فكر, به من السعة -أو الاتساع بمعنى أصح-ما يجعل داخله أجنحة و تيارات أخرى, من أقصى اليمين الى أقصى اليسار.
و أملى, أن يكون للتيارات الوسطية, داخل كل فكر, من الوعى و الرغبة الصادقة فى الإصلاح ما يمكنها من تغيير ثقافة الاختزال, و تعويد الناس على قبول الآخر, على ثقافة قبول المخالف, و على عدم تعميم الأحكام, فلسنا فى حالة تسمح لنا بتضييع الوقت فى صراعات داخلية, نتيجة لقصور الرؤى, و الاختزال.
و قد يرى البعض أن مقابل الإختزال هو أن أوزع المسئولية على الطرفين,و أن يكون رد فعلى إزاء كل من يقول رأياً أختلف معه هو أن أرد عليه بذكر مثال لشخص آخر وقع فى نفس الخطأ, و أذكر مثالاً للتوضيح: يتحدث البعض عن بعض الأخطاء للحكومة, فيخرج علينا من يقول:لماذا لا تنظرون الا لهذه الأخطاء و تنسون كل الإنجازات السابقة, ثم إن ما نفعله لا يحدث عندنا فقط, بل يحدث فى دول كذا و كذا و كذا, و فى أمريكا كمان!!و نعم هناك فساد, لكن هناك أيضاً فساد فى دول كذا و كذا, و أمركيا برضه!!!
لا يا عزيزى, ليس معنى ألا تكون مختزلا هو أن توزع الأخطاء على الجميع, هذا من قبيل ترييح الزبون, و إنامة الوعى و الضمير, و كأننا يجب ألا نعترف بوجود قصور طالما أن غيرنا يعانى من نفس القصور, و هذا نوع من المغالطة لا يؤدى فى النهاية إلا لعدم الوصول لحل للمشكلة الأساسية.
أعود و أقول, يجب أن تكون نظرتنا للأمور وسطية, الصح أعترف بأنه صح و أصفق له, و أدعمه, حتى لو كان من فعل من لا أطيقهم أو أعترف بشرعيتهم, طالما أنه يصب فى الصالح العام.
و الخطأ أصرخ بعلو صوتى قائلاً أنه خطأ, و يجب تصحيحه, و ليس معنى أن بعض الدول بها مجاعات أن نسكت على وجود أزمة فى الخبز, و ليس معنى أن هناك دول كبرى بها فساد أن نكف عن المطالبة بالتغيير و محاربة الفساد.
إن الإسلام أكبر من أن يختزل فى عبادة واحدة و تُهمل بقية أركانه, و هو أعظم من أن يختزل فى صورة المنتسبين اليه,و المسلمين أحق بألا يؤاخذوا بذنب جماعة واحدة, أما مصر فهى أعظم من أن تُختزل فى صورة فرد أو حزب, فنحبها بحبهم, و نلعنها ببغضهم.
الخلاصة: لو سمحت, لا يكن تفكيرك أبداً قاصراً, و لا تجعل رؤيتك للأمور رؤية مبتسرة و مختزلة, و لا تتسرع فى الأحكام, و لا تعمم الأحكام على الجميع, فالحياة بها مساحات كبيرة من الألوان فلا تختزلها فى الأبيض و الأسود فقط, و إذا كنا نريد أن ننهض بهذا البلد, فلنتعاون على التخلص من هذه الثقافة, ثقافة الإختزال, حتى نتمكن من رؤية الأمور بوضوح على حقيقتها, و قبل ذلك, حتى نتمكن من رؤية بعضنا البعض, على حقيقتنا أيضاً.