لماذا نحفظ القرآن؟
سؤال لايطرحه مسلم جاد إلا من باب الرغبة في التعرف على فضائل هذا العمل وآثاره ليزداد رغبة وحماسة؛ ذلك أن قضية فضيلة حفظ القرآن مقررة لدى كل مسلم بداهة، بغض النظر عن موقعه في سلم الثقافة، وعن مدى تدينه واستقامته. وهاهي محاولة لحشد بعض الفضائل والمزايا لحفظ القرآن الكريم، سواء مادلت عليها النصوص الشرعية صراحة، أو كان ذلك مما يفهم من عموم النصوص وقواعد الشرع.
1 - حفظ القرآن هو الأصل في تلقيه :
قال النووي:“فمعناه: محفوظ في الصدور لا يتطرق إليه الذهاب بل يبقى على مر الزمان”
ومن لطائف الاستدلال في ذلك ما استدل به أبو الفضل الرازي فقال:“ومنها أن الله عز وجل لم ينزله جملة كغيره من الكتب، بل نجوماً متفرقة مرتلة ما بين الآية والآيتين والآيات والسورة والقصة، في مدة زادت على عشرين سنة، إلا ليتلقوه حفظاً، ويستوي في تلقفه في هذه الصورة الكليل والفطن، والبليد والذكي، والفارغ والمشغول، والأمي وغير الأمي، فيكون لمن بعدهم فيهم أسوة في نقل كتاب الله حفظاً ولفظاً قرناً بعد قرن وخلفاً بعد سلف”.
2 - القرآن مصدر التلقي عند الأمة :
القرآن الكريم دستور الأمة، فإليه الحكم والتحاكم، ومنه الاستمداد والتشريع، وما من صغيرة أو كبيرة إلا ونبأها في هذا الكتاب العزيز { وما كان ربك نسياً }(مريم:64)، وهو مع ذلك الضياء الذي تحمله الأمة لسائر الناس لتؤدي رسالتها، خير أمة أخرجت للناس، شهيدة عليهم في الدنيا والآخرة، فلا يصير المرء مسلماً إلا بالإيقان أنه من عند الله، والخضوع والاستسلام له، فإذا كان هذا شأن القرآن في حياة الأمة، فما بالك بشأن من يحفظه ويعنى به؟
صرح بعض أهل العلم أن حفظ القرآن الكريم واجب على الأمة فإن قام بذلك قوم وإلا سقط الإثم عن الباقين. قال بدر الدين الزركشي:"قال أصحابنا تعلم القرآن فرض كفاية، وكذلك حفظه واجب على الأمة، صرح به الجرجاني في الشافي والعبادي وغيرهما"
ويتعبد المسلم لربه تبارك وتعالى في البحث والتعرف على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ما كان يفعل في أموره وأحواله، ومن ثم التأسي بها واتباعها. وحفظ كتاب الله تبارك وتعالى فيه من التأسي به صلى الله عليه وسلم ؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم يحفظه ويديم تلاوته ومعارضة جبريل به، وقد نبه على هذا المعنى أبو الفضل الرازي المقريء فقال:“فمنها: ما لزم الأمة من الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في جلي أمر الشرع وخفيه، قولاً وفعلاً، على الوجوب أو الندب إلى أن يقوم دليل على أنه كان -عليه السلام- مخصوصاً به من قوله أو فعله، فلما وجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حافظاً بجميع ما نزل عليه من القرآن، ومأموراً بقراءته، حتى أنه -عليه السلام- من شدة تمسكه بحفظه كان يعرض على جبريل -عليهما السلام- في كل سنة مرة واحدة، وفي السنة التي قبض فيها عرض عليه -عليهما السلام- مرتين، وكان يعرض على أصحابه ويعرضون عليه، ويعجل به ليستكثر منه، لئلا ينسى ولحرصه عليه، فنهي عنه بقوله تعالى { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } (طه:114) وبقوله عز وجل { لا تحرك به لسانك لتعجل به } (القيامة:16) وأمر بالترتيل، وأمن مما كان يصده عن ذلك وهو خشية النسيان والتفلت منه بقوله تعالى { سنقرئك فلا تنسى } (الأعلى:6) علمنا أن الأمة لزم حفظه مع الإمكان وجوباً، إلا عن عذر بين، وإلا فقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة استحباباً وندباً”.
ثم قال بعد أن ذكر وجوهاً أخرى “غير أني أتقدم عليه بسند ما تقدم من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعرضه على غيره، وعرض الصحابة رضي الله عنهم بعضهم على بعض، ففي جميع ذلك مستدل أنه من الله سبحانه وتعالى دعا به إلى حفظه، وعطف على العمل بما فيه، وأن لا يسع أحد أن يتخلف عن حفظه أو تحفظه، وتلاوته على الدوام إلا عن عذر ظاهر”.
5 - حفظ القرآن تأس بالسلف:
قال أبو الفضل الرازي:“وعلى الحفظ والتحفظ كان الصدر الأول ومن بعدهم، فربما قرأ الأكبر منهم على الأصغر منه سناً وسابقة، فلم يكن الفقهاء منهم ولا المحدثون والوعاظ يتخلفون عن حفظ القرآن والاجتهاد على استظهاره، ولا المقربون منهم على العلم بما لم يسعهم جهله منه، غير أنهم نسبوا إلى ما غلب عليهم من المعرفة بحروفه أو العلم بغيرها، إلى أن خلفهم الخلف الذين مضى ذكرهم، فاتهم من طراتهم وحداثتهم طلب حفظ القرآن وفي أوانه، ولحقهم العجز والبلادة على سنهم، من غير أن كان لهم أنس بتلاوة كتابٍ من ربهم، ولا بلطيف خطابه وشريف عتابه”( ).
وقال ابن عبدالبر:“طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، ومن تعدى سبيلهم عامداً ضل، ومن تعداه مجتهداً زل، فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهمه…”
. قال محمد بن الفضل بن محمد: سمعت جدي يعني ابن خزيمة يقول: استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة، فقال: اقرأ القرآن أولاً حتى آذن لك، فاستظهرت القرآن، فقال لي امكث حتى تصلي بالختمة، ففعلت فلما عيدنا أذن لي. وقال الإمام النووي : "كان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن يحفظ القرآن "( ).
وعد ابن جماعة الأدب الأول من آداب طالب العلم في دروسه: "أن يبتديء بكتاب الله العزيز، فيتقنه حفظاً، ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه؛ فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها".
قال ابن مفلح:“وقال الميموني: سألت أبا عبدالله: أيهما أحب إليك، أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث؟ قال: لا، بالقرآن، قلت: أعلمه كله؟ قال: إلا أن يعسر فتعلمه منه، ثم قال لي: إذا قرأ أولاً تعود القراءة ثم لزمها، وعلى هذا أتباع الإمام أحمد إلى زماننا هذا”( ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:“وأما طلب حفظ القرآن: فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علماً: وهو إما باطل، أو قليل النفع، وهو أيضاً مقدم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن، فإنه أصل علوم الدين، بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم: من الكلام، أو الجدال والخلاف، أو الفروع النادرة، والتقليد الذي لا يحتاج إليه، أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا ينتفع بها، وكثير من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله”.
6 - حفظ القرآن من خصائص هذه الأمة:
حفظ القرآن من خصائص هذه الأمة المحمدية، قال ابن الجزري رحمه الله:“ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على خط المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة”.
وقال أيضاً :" فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرأه بكل حال كما جاء في صفة أمته : ( أناجيلهم في صدورهم ) وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب، ولا يقرؤونه كله إلا نظراً، لاعن ظهر قلب، ولما خص الله تعالى بحفظه من شاء من أهله، أقام له أئمة ثقاة تجردوا لتصحيحه، وبذلوا أنفسهم في إتقانه، وتلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم حرفاً حرفاً، لم يهملوا منه حركة ولا سكوناً، ولا إثباتاً ولا حذفاً، ولا دخل عليهم في شيء منه شك ولا وهم ".
ولا يزال حفظ القرآن شعاراً لهذه الأمة، وشوكة في حلوق أعدائها، تقول المستشرقة لورا فاغليري:“إننا اليوم نجد على الرغم من انحسار موجة الإيمان آلافاً من الناس القادرين على ترديده عن ظهر قلب، وفي مصر وحدها عدد من الحفاظ أكثر من عدد القادرين على تلاوة الأناجيل عن ظهر قلب في أوربا كلها”.
ويعترف أحد من حرموا نور القرآن بهذه الميزة والخاصية؛ إذ يقول جيمس منشيز:“لعل القرآن هو أكثر الكتب التي تقرأ في العالم وهو بكل تأكيد أيسرها حفظاً”.
7 - حفظه ميسر للناس كلهم:
يأمل كثير من الناس أن يحقق قدراً من العلم ومستوى من التحصيل، لكن ربما تقف قدراته العقلية عائقاً دون ذلك، أما حفظ القرآن الكريم فله شأن آخر، فكم رأينا مَنْ محدودي الإدراك وضعاف الحفظ استطاعوا حفظ القرآن الكريم، ولذا عد النويري ذلك من إعجاز القرآن فقال :"والقرآن قد يسر الله تعالى حفظه على الغلمان في المدة القريبة والنسوان، وقد رأينا مَن حفظه على كبر سنه، وهذا من معجزاته ".
وقال القرطبي -حول قوله تعالى{ ولقد يسرنا القرآن للذكر } (القمر:17)-:“أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه فيعان عليه؟”( ).
قال الرافعي :" إنا لنعرف صبيان المكاتب - وقد كنا منهم - وما يسهل عليه القرآن وإظهاره، ولا يمكنه في أنفسهم حتى يثبتوه إلا نظمه واتساق هذا النظم، ولو هم أخذوا في غيره من فنون المعارف أو مختار الكلام أو نحوه مما يرادون على حفظه، أي ذلك كان لأعياهم وبلغ منهم إلى حد الانقطاع والتخاذل حتى لا يجمعوا منه قدراً في حجم القرآن إن جمعوه إلا وقد استنفدوا من العمر أضعاف ما يقطعونه في حفظ القرآن، على أنهم يبلغون هذا بالعفو والأناة ولا يبلغون مثله من ذلك إلا بالعنت والجهد"( ).
“أرأيتم ذلك الصبي يرسله والده إلى الكتاب، لا يعرف للحروف شكلاً، ولا يملك من اللسان العربي إلا كلمات محدودة، يقضي بها الحاجات اليومية لمن هم في مثل سنه، ولا يدرك من المعاني ما وراءها، يرسله والده إلى الكتاب فيقرأ القرآن، ثم ما يلبث إلا زمناً يسيراً، فإذا به قد حفظ القرآن كله، وأجاد تلاوته”.
و"تلكم مدارس تحفيظ القرآن في العالم الإسلامي، نشأت منذ نزول القرآن ومازالت، يلتحق بها في كل بلد الآلاف يتلون القرآن، ويحفظون منه ما شاء الله، أرأيتم لو كان في حفظه مشقة، هل سيلتحق بها أحد أو يُلحق ابنه؟".
“أما المتعتع فيه فإنه لا يشكو صعوبة القرآن، وإنما يشكو تقصيره هو، فإذا ما أجاد سوراً منه، انطلق لسانه في السور كلها”( ). وهذا كله مما يقوي العزيمة ويعلي الهمة للحفظ، ويجعل المرء يتجاوز مخاوف الفشل وعدم بلوغ الغاية.
8 - حفظ القرآن مشروع لا يعرف الفشل:
يمثل الخوف من الفشل عائقاً وحاجزاً يحول بين كثير من الناس وطموحاته، وبقدر سمو همته وعلو طموحه يتبدى له هذا الهاجس، وقد تكون نهاية كثير من مشاريع الناس وطموحاتهم الاصطدام الفعلي بحاجز الفشل وعدم القدرة على تجاوزه، وبغض النظر عن مناقشة النفسية التي يسيطر عليها مثل ذلك الشعور، فإن مشروع حفظ القرآن لا مجال فيه لهذا التفكير، لماذا؟ حين يبدأ الشاب برنامجه الطموح لحفظ القرآن ثم تنقطع نفسه وتنتهي عزيمته قبل النهاية، فهل فشل فعلاً، وقد حفظ بضعة أجزاء؟ إن هذا الجهد لم يذهب سدى، بل هب أنه لم يحفظ شيئاً يذكر، فالوقت الذي بذله في التلاوة والحفظ وحرم نفسه من كثير من شهواتها وملذاتها هو وقت قضاه في طاعة الله تبارك وتعالى، بل وكم آية وسورة رددها تالياً والحرف بعشر حسنات؟
9 - حملة القرآن هم أهل الله:
فلينتسب كل إنسان لما يحلو له: أهل الدنيا، أهل الثراء، أهل الفن، أهل الرياضة… ولتجُد القواميس بكل وصف وثناء، فهل تأتي بأكمل مما وصف به حملة كتاب الله: (أهل الله وخاصته)؟
10 - تكريم حامل القرآن من إجلال الله:
إكرام حافظ القرآن الكريم من إجلال الله سبحانه، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط" .
وهذا دليل على علو منزلته وعظم شأنه. ذلك أن من يكرم حامل القرآن فإنه لا يكرمه لأنه فلان أو فلان، إنما لأنه يحمل كلام الله تبارك وتعالى فصار إكرامه إجلالاً لله عز وجل.
11 - حافظ القرآن أولى أن يغبط:
لقد رفع الله بعض الناس في هذه الدار على بعض درجات { أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سُخْرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون } (الزخرف:32) { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً }(الإسراء:21) فجعل تبارك وتعالى من الناس صاحب المال الوفير، وصاحب المكانة العالية بين الناس، وجعل منهم صاحب الجاه والشهرة فيشير الناس لأحدهم ويتطلعون إليه ويغبطونه ويحسدونه على ما هو عليه، ولسان حال كل منهم يقول :" يا ليتني مكانه". أما الذي يستحق الغبطة حقاً، ويستحق أن يتبوأ هذه المكانة فهو حامل كتاب الله عز وجل. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه صلى الله عليه وسلم قال :“لا حسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يتصدق به آناء الليل وآناء النهار”.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل "
12 - حفظه وتعلمه خير من متاع الدنيا
ولن تفهم هذا النص حق الفهم إلا حين تدرك أن الإبل كانت آنذاك أنفس المال وأغلاه. فما بالك أخي الشاب بمن يتعلم ويحفظ القرآن كله، ويقرأه مراراً، ويحرك قلبه بمواعظه؟ أرأيت أنك أحسنت الاختيار وأصبت الطريق وسلكت الجادة حين ثنيت ركبتك في المسجد تحفظ كتاب الله وتتعلمه، وما أنت عليه لا يقارن بحال بما عليه أترابك من الانصراف للهو أو الدنيا، فالزم غرزك، أو بادر للميدان إن كنت لما تسلكه بعد.
13 - حافظ القرآن هو أولى الناس بالإمامة:
الصلاة عمود الدين وثاني أركان الإسلام، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله، وليس شيء من الأعمال تركه كفر غير الصلاة…الخ فضائلها ومكانتها، ولهذا رأى الصحابة أن تقديم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر -رضي الله عنه- في الصلاة رضاً لدينهم، فرضوه لدنياهم. فمن الذي يقدم فيها لأن يؤم الناس؟ إنه حامل القرآن:- عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم"( ).
وعن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً، ولايؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه "
14 - حافظ القرآن هو أولى الناس بالإمارة:
لقد كان إدراك الرعيل الأول لمنزلة حامل القرآن دافعاً لهم أن يتجاوزوا المعاني الضيقة التي تكبل الناس فتحول دون بلوغ من يحمل الصفات الخيرة منزلته التي يستحقها. وأنت حين تسعى لحفظ كتاب الله تبارك وتعالى فليس الذي يدفعك لذلك الحرص على الإمارة والولاية، أو أن تُقدم إماماً للناس، إنما تشعر أن تقديم الشرع لحامل القرآن دليل على فضله ومنزلته، فأنت حينها تقصد هذا الفضل والمنزلة لا ماينتج عنه من الإمارة أو الولاية ونحوها.
15 - حفظ القرآن مهر للصالحات من المؤمنات: وحفظ القرآن مهرٌ وأنعم به من مهر فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصعد النظر إليها وصوبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً، جلست فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال:“هل عندك من شيء؟” فقال: لا والله يا رسول الله، قال:“اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئاً؟” فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ما وجدت شيئاً، قال:“انظر ولو خاتماً من حديد” فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتماً من حديد، ولكن هذا إزاري- قال سهل: ما له رداء- فلها نصفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك شيء؟" فجلس الرجل حتى طال مجلسه ثم قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً فأمر به فدعي فلما جاء قال:“ماذا معك من القرآن؟” قال: معي سورة كذا وسورة كذا وسورة كذا عدها، قال:“أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟” قال: نعم قال: "اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن " ( ). وإن لم تجد من يُزوجك بما معك من القرآن، فلعل سلوكك هذا الطريق يكون مهراً لكاعب لا تشيخ ولا تموت، إليها المنتهى في الجمال، وقد بلغت الغاية ومضرب المثل، لو اطلعت على أهل ا لأرض لملأت ما بينهما ريحاً، فبادر بتقديم مهرها جعلنا الله وإياك من أهل هذا النعيم.
16 - حافظ القرآن يقدم في قبره:
وكما أعلى الله شأن حامله في الدنيا فقد أعلى شأنه في الآخرة، فهو أولى الناس بالتقديم حتى بعد موته، فعن جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: "أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ "، فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: “أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة” وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم( ). إن تكريم حامل القرآن لم يقف عند هذه الدار بل تجاوزها إلى الدار الباقية، فيقدم في قبره، وهنيئاً له ما يلقاه بعد ذلك.