مراجعة الحق فضيلة

كتبه/ أحمد عبد السلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد ذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة الحجاج، أن رجلاً قبض عليه ظلماً، فقال للحجاج: إن أخي خرج مع ابن الأشعث فضُرب على اسمي في الديوان، ومُنعت العطاء، وقد هدمت داري. فقال الحجاج: أما سمعت قول الشاعر

جانيك من يجني عليك وقد

تُعْدي الصحاحَ مباركُ الجُربِ

ولَربَ مَأخوذ بذَنْب قريبِهِ

ونجا المقارفُ صاحبُ الذنبِ


فقال الرجل: أيها الأمير إني سمعت الله يقول غير هذا، وقولُ اللهِ أصدقُ من هذا. قال: وما قال؟ قال: (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ) قال: يا غلام، أعد اسمه في الديوان، وابنِ دارَه، وأعطه عطاءه، ومر منادياً ينادي صدق الله، وكذب الشاعر. أ.هـ.
مع أن الحجاج مشهور بظلمه وجوره إلا أن هذا الموقف عُدَّ من حسناته لما فيه من مراجعة الحق. فمراجعة الحق محمودة من أي أحد، فكيف بأهل العلم والفضل؟! فهذا مما يجب على أهل العلم وحملة الشريعة أن يراجعوا الحق إذا تبين لهم، ولا يمنعهم وساوس الشيطان أن يرجعوا عن آرائهم وأقوالهم إذا تبين لهم أنهم أخطئوا فيها
وللسلف مواقف مشهورة بذلك.
عن عبد الواحد بن زياد قال: لقيت زفر، فقلت له: صرتم حديثاً في الناس ضحكة. قال: وما ذلك؟ قال: تقولون في الأشياء كلها ادرؤوا الحدود بالشبهات، وجئتم إلى أعظم الحدود فقلتم تقام بالشبهات. قال: وما ذلك؟ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ)، فقلتم: يقتل به ؟ (يقصد مذهب الأحناف) قال: فإني أشهدك الساعة أني قد رجعت عنه.
وعن ابن وهب قال: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء، فقال ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خف الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة. فقال: وما هي؟ قلت: -بسنده- عن المستورد بن شداد قال: (رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه). فقال: إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة. ثم سمعته بعد ذلك يُسأل، فيأمر بتخليل الأصابع.
وعن محمد بن قاسم العثماني قال: جئت مجلس الشيخ أبي الفضل الجوهري، فكان مما قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- طلق وظاهر وآلى. فلما خرج تبعته حتى بلغت معه إلى منزله، فلما انفض عنه الناس، وبقيت وحدي معه، فقلت له: حضرت المجلس اليوم متبركاً بك، وسمعتك تقول: آلى رسول الله، وصدقت، وطلق رسول الله، وصدقت، وقلت: وظاهر رسول الله. وهذا لم يكن ولا يصح أن يكون لأن الظهار منكر من القول وزور، وذلك لا يجوز أن يقع من النبي -صلى الله عليه وسلم-. فضمني إلى نفسه، وقبل رأسي، وقال: أنا تائب من ذلك، جزاك الله عني من معلم خيراً، وبكَّرتُ إلى مجلسه في اليوم الثاني، فألفيته قد سبقني إلى الجامع وجلس على المنبر، فلما دخلت من باب الجامع ورآني، نادى بأعلى صوته: مرحباً بمعلمي، أفسحوا لمعلمي.
وتبادر الناس إلي يرفعونني على الأيدي حتى بلغت المنبر، وأنا لعظيم الحياء لا أعرف في أي بقعة أنا من الأرض، والجامع غاص بأهله، وأسال الحياءُ بدني عرقاً، وأقبل الشيخ على الخلق، فقال لهم: أنا معلمكم وهذا معلمي، وأخبرهم بما جرى بالأمس، وقال: وأنا تائب عن قولي بالأمس، وراجع عنه إلى الحق، فمن سمعه ممن حضر فلا يعول عليه، ومن غاب فليبلغه من حضر. فجزاه الله خيراً" أ.هـ بتصرف.
وهنا يعلق العلامة ابن العربي قائلاً:
فانظروا -رحمكم الله- إلى هذا الدين المتين والاعتراف بالعلم لأهله على رؤوس الملأ، ومن رجل ظهرت رياسته، واشتهرت نفاسته لغريب مجهول العين لا يعرف مَن، ولا من أين؟، واقتدوا به ترشدوا" أ.هـ
وحكى الإمام عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله- عن الشيخ عبيد الله بن الحسن العنبري قال: “كنا في جنازة فسألته عن مسألة فغلط فيها. فقلت له: أصلحك الله، القول فيها كذا وكذا. فأطرق ساعة ثم رفع رأسه، فقال: إذاً أرجع وأنا صاغر، لأن أكون ذنباً في الحق أحب إلي من أن أكون رأساً في الباطل”.
وفي ذلك أيضاً نُقولٌ طيبة عن الصحابة -رضي الله عنهم- والخلفاء الراشدين، منها أن عمر -رضي الله عنه- كان يرد النساء اللواتي حضن، ونفرن قبل أن يودعن البيت حتى أُخبِرَ بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أذن في ذلك فأمسك عن ردهن، وكان يفاضل بين ديات الأصابع حتى علم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره بالمساواة بينها، فترك قوله، واخذ بالمساواة.
وعثمان -رضي الله عنه- أمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر، فذكَّره علي -رضي الله عنه- بالقرآن وأن الحمل قد يكون ستة أشهر فرجع عن الأمر برجمها.
وهذا يدل ويرشد على أمرين هامين:
1- أن مراجعة الحق فضيلة، ولا تنقص من قدر صاحبها، بل ترفع قدره، وتظهر إنصافه وإخلاصه وتحريه للحق.
2- أن كلاً يخطئ ويصيب إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وينبغي أن يعلم أن خطأ العالم لا ينقص قدره، بل يعرف له قدره، ويُتأدب معه، ويتجنب خطأه. واسمع إلى هذا الكلام النفيس من الإمام المنصف العلامة شمس الدين الذهبي في ترجمة العلامة ابن عبد البر -رحمه الله- قال: "كان إماماً ديِّناً، ثقة، متقناً، علامة، متبحراً، صاحبَ سنةٍ واتباعٍ، وكان أولاً أثرياً ظاهرياً فيما قيل، ثم تحول مالكياً مع ميلٍ بيِّنٍ إلى فقه الشافعي في مسائل، ولا ينكر له ذلك، فإنه ممن بلغ رتبة الأئمة المجتهدين، ومن نظر في مصنفاته، بان له منزلته من سعة العلم، وقوة الفهم، وسيلان الذهن، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن إذا أخطأ إمام في اجتهاده، لا ينبغي لنا أن ننسى محاسنه، ونغطي معارفه، بل نستغفر له، ونعتذر عنه"أ.هـ من سير أعلام النبلاء.
واللهُ وَلِيُّ التَوْفِيقِ
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
www.salafvoice.com
موقع صوت السلف

الله أكبر، ما أحلى الكلام عن العلم وأهله
وما أضاعنا في هذه الأيام السواد إلا فساد الؤوس ممن لهم أتباع وهم أهل ضلال
وهناك فائدة ونكتة في هذا الموضوع

أما عن الفائدة، فمما ينبغي ألاّ يخفى على طلاب العلم أنه بالرغم من كرامة العلم وأنه لا أحد فوق العلم وأن الحق لا يعرف بالرجال ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق إلا أنه لابد أن يحترم العالم ولا يعمل معاملة غيره من طلاب العلم والدعاة إلى الله. فإذا أخطأ عالم فلا يصحح على الملأ ولابد أن تنتقى العبارات وتصفى قبل أن توجه غليه (كما تبين من الموضوع الأصلي)

وأما عن النكته فهي في حديث تخليل الأصابع، فمن المعروف أن أول من حد حداً (أي وضع له تعريفاً واصطلاحاً علمياً استخدمه العلماء فيما بعد) للحديث الحسن هو الأمام الترمذي رحمه الله وهو من تلاميذ البخاري والبخاري من تلاميذ أحمد وأحمد من رتبة الشافعي والشافعي من تلاميذ مالك إلا أننا نرى الإمام مالك يقول (هذا حديث حسن) وهي أول مرة -والله أعلم- يقال فيها "حديث حسن- ولكن هذا ليس على مصطلح أهل الحديث وغنما قصد به -والله اعلم- حسن المتن وسلامة السند وإلا فالحكم على هذا الحديث -المرجع موقع الدرر السنية- حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة - المحدث: الترمذي - المصدر: سنن الترمذي - الصفحة أو الرقم: 40

الله يجزيك الخير

وفعلا الحديث عن العلماء شي ممتع جدا