مفسدات الأخوة

كم تصبح الحياة قاسيةحين ينضب معين الأخوة، وتجف ينابيع الحب في الله، وإذا حلِّت الأنانية وحب الذاتمحل الأخوة عند ذلك يعيش الفرد حياة نكدة، ويشعر بعزلة قاسية عن مجتمعه.
كثيرمن الناس يمارس ألوانًا من مفسدات الأخوة، فيتفنن في إبعاد الآخرين عنه، تارة يشعربذلك، وتارة لا يشعر بذلك، فيعيش عزلة نفسية يتجرعها في الدنيا.
وانطلاقًا منهذا نحاول أن نتكلم عن مفسدات الأخوة في الله، ولكن قبل ذلك لا بد أن نقوم بجولة فيرياض السنة لنقتطف بعض الأحاديث الثابتة عن الأخوة في الله، والحب في الله، ونزينهاببعض أقاويل سلف الأمة، وقبل ذلك يقول سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَإِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ…[10]}[سورة الحجرات] .وذكر من نعيمأهل الجنة المعنوي:{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىسُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ[47]}[سورة الحجر]. فإن الذي ينغص ويفسد جو الإخوة أن يكون فيالقلوب غلٌ وحقدٌ وحسدٌ، ينكد على الإنسان عيشته في الدنيا.
وذكر صلى الله عليهوسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: [… وَرَجُلَانِتَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ…] رواه البخاريومسلم. وفي الحديث القدسي: [قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُتَحَابُّونَ فِيجَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَوَالشُّهَدَاءُ]رواه الترمذي وأحمد.
وفي الحديث القدسي الآخر يقول: [حَقَّتْمَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّوَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِيلِلْمُتَوَاصِلِينَ فِيَّ] رواه مالك وأحمد.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُفِي قَرْيَةٍ أُخْرَى فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا فَلَمَّاأَتَى عَلَيْهِ قَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِالْقَرْيَةِ قَالَ هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا قَالَ لَا غَيْرَأَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِإِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ] رواه مسلم.
أما أقوال السلف:
فيقول محمد بن المنكدر -لما سئل ما بقي من لذته في هذهالحياة؟- قال: 'لقاء الإخوان وإدخال السرور عليهم’.
وقال الحسن: 'إخواننا أحبإلينا من أهلينا؛ إخواننا يذكرونا بالآخرة، وأهلونا يذكرونا بالدنيا’.
وسئلسفيان: ما ماء العيش؟ قال: ‘لقاء الإخوان’. وقيل:'حلية المرء كثرة إخوانه’.
وقالخالد بن صفوان: 'إن أعجز الناس من يقصر في طلب الإخوان،وأعجز منه من ضيع من ظفربهم’…
تأمل هذه الأقوال الجميلة: آيات الله، وأحاديث الرسول، وأقوال سلفالأمة، وانظر إلى الواقع؛ يعطيك دليلاً على واقعيتها ومصداقيتها… فمن الذي أعانكعلى الالتزام والدخول في عالم الهداية؟ من الذي يثبتك على طريق الاستقامة في خضمهذه الفتن؟ من الذي تبث إليه همومك؟ من الذي يقف معك عند النكبات والأزمات؟ لذلكقال عمر:'لقاء الإخوان جلاء الأحزان’.
إذاً كيف يطيب لعاقل أن يقطع أواصرالأخوة ليعيش حياة الهموم والغموم بعيدًا عن فضائل الأخوة في الله ونتائجهاالعظيمة؟!
مفسدات الأخوة:
هناك مفسدات كثيرة نذكر منها:
أولاً: الطمع فيالدنيا بما في أيدي إخوانك: قال صلى الله عليه وسلم: [ازْهَدْ فِي الدُّنْيَايُحِبَّكَ اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّوكَ] رواه ابنماجة. فلا شك أن الذي يتطلع لما في يدك لا تحبه، والذي يشعرك بالزهد في ما بين يديكتجله، وتجعل له تقديرًا لائقًا به، لذلك لا ينبغي للعاقل أن يتطلع لما في أيديالناس.
وإذا ألمت بك مصيبة؛ فاطلب مشورة أخيك، ولا تطلب منه حاجتك، فهو إن كانيعزك ويعرف قدرك؛ فسينبري لمساعدتك، ولا حاجة للطلب وإراقة ماء الوجه.
ثانيًا:المعاصي، وتضييع الطاعات: فإذا نضبت ساعة الصحبة من الذكر والعبادة، أوالتناصح والتذكير والتعليم؛ فإن الجفاف ينزل في هذه الصحبة والعلاقة بسبب قسوةالقلب والملل؛ حيث ينفتح باب الشر، بل أبواب الشر، فينشغل كل واحد بأخيه، وصدق رسولالله عندما قال: [الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَاإِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا]رواه أحمد.
لذلك ذكر ابن القيم رحمهالله في ‘الجواب الكافي’: ‘من آثار المعصية وحشة يجدها العاصي مع إخوانه’ . لذلكتجد المنتكسين الذين بدأوا في مسلسل الضعف يتحاشون لقاء الإخوان، فالمعاصي قطعتالعلائق؛ لأنه قطع الصلة بالله، فانقطعت الصلة مع أحببته في الله.
وانظر وتفقدقلبك هل تشعر براحة وانشراح صدر حين تلقى إخوانك الجادين، أم تتوارى وتشعر بالحرج،راقب نفسك، حاسب نفسك.
أما أصحاب المعاصي والمنكرات فعلائقهم مادية تراهم فييوم في ضحك وجلسات وسفرات، ثم تنقلب إلى عداوة؛ لأنها ما بنيت على تقوى، ثم يكونلهم الخزي والعار يوم القيامة:{ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍعَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ[67]}[سورة الزخرف] . أخوة في الله في الدنيا، وتواصلفي الجنان {…إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ[47]}[سورة الحجر] .
ثالثًا: عدم التزام الآداب الشرعية في الحديث: فقد ترك لنا النبي منهجًاراقيًا، يبني علاقاتنا، ويزكي نفوسنا، ويهذب مشاعرنا، ويصفي علاقاتنا، منذلك:
اختيار أطايب الكلام في محادثة الإخوان: قال سبحانه:{ وَقُلْ لِعِبَادِييَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّالشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا[53]}[سورة الإسراء] . يسميهالناس الآن الاصطياد في الماء العكر، يلقي كلمة ما قصد بها شراً، لكن تحتمل معاني،هذه فرصة الشيطان: يقصدك… تنقصك… يرمي إلى كذا… هل يقصد كذا؟لذلك وجب علىالمتحابين أن ينتقوا أطايب الكلام كما ينتقون أطايب الطعام، وقديمًا قال النبي: […الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ…]رواه البخاري ومسلم. وقال سبحانه موجهًاإلى خفض الصوت مع الإخوان:{…وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِلَصَوْتُ الْحَمِيرِ[19]}[سورة لقمان].
تكلم بالكلمة التي تسمع أخيك، أما أنتتطاول بالكلام وترفع صوتك فأنت تقطع علاقاتك من حيث تشعر أو لا تشعر.
وبعضالناس -حتى ولو لم يكن مثاراً ولم يكن في حالة غضب- لم يتعود على الكلام المهذب،ديدنه رفع الصوت، والسباب والشتم، والاحتقار والسخرية، فيزرع العداوات، ويقضي علىالعلاقات.
رابعًا:كذلك من الآداب التي نحتاجها في بناء علاقاتنا وتصفيةعلائقنا: الإصغاء إلى المتحدث والإقبال إليه بالوجه في الكلام والسلام: لذلك قالأحد السلف 'إن الرجل ليحدثني بالحديث أعرفه قبل أن تلده أمه، فيحملني حسن الأدب علىالاستماع إليه حتى يفرغ’.
وقال الشاعر:
وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبهولعلـه أدرى بـهأدرى بالحديث ومراميه، ومع ذلك يعطي أدبًا في فن الاستماعبينما بعض الناس بمجرد أن يسمع كلمة، تراه يقول أنا أفهم هذا… أنا مر عليّ هذاكأنه يقول: أنت جاهل، فقدرك أن تكون مستمعًا !
خامسًا:المبالغة في المزاح إلىحد الجرأة خاصة مع أهل الفضل: لذلك قالوا: 'كثرة المزاح تجرأ السفهاء، وتسقطالهيبة’ مزاح، نكتة سخيفة، تعليقة لا قيمة لها… لا يا أخي، لم يكن النبي بهذاالشكل، كان مزحه خفيفًا، وملائمًا، وكثير من الناس تقطعت علاقاتهم بسبب مزحة ثقيلة،أو تعليقة سخيفة، أليس كذلك؟سادسًا:المراء والجدال: قد تنقطع العلاقة المتينةبسبب جدال عقيم، داخلته حظوظ النفس، وبتغريرٍ من الشيطان يدافع عن عقيدته ووطنه،وهو في الحقيقة يدافع عن ذاته وكبريائه، بسبب بروز طبائع العناد والمكابرة، فلايبقى معها مكان للأخوة، ولا تقدير للعِشرة.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلمإذ يقول: [إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ]رواهالبخاري ومسلم. كثير الخصومة… افتعال المعارك الكلامية… حب الجدال والمناظرةوإظهار الرأي… هذا أبغض الناس إلى الله.
وقال صلى الله عليه وسلم: [مَا ضَلَّقَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ…]رواه الترمذيوابن ماجة وأحمد.
إذن من علامات الخذلان وضياع الهداية أن يؤتى الإنسان الجدل،كأنه ينتصر لقضية وهو ينتصر لنفسه، وكل هذه الأدوات، وهذه الحجج موظفة لنفسه.
أما الجدال بالتي هي أحسن لبيان الحق للجاهل والمبتدع، فلا بأس به، لكن إذا خرجالجدال عن إطاره المشروع، وبدأت حظوظ النفس تتسلل، وظهر لك أن الخصم جدلي مقيت لايريد حقاً، إنما يرد مشاغبة، فانسحب بلطف، فالجدال الذي من أجل إظهار النفس لا طائلمن ورائه، ولا شك أنه دليل على ضعف الإيمان، وقلة التربية.
فهذا الجدال قد يذهببالأخوة يرتفع صوته ويشق على أخيه… لماذا؟ يريد أن يثبت أمام الناس أنه أقوى حجة،فيقطع علاقة متينة؛ لأنه أورث الجدل.
سابعًا:من مفسدات الأخوة: النجوى: أشياءبسيطة في ظاهرها لكن لها معانٍ عميقة لمن يفكرون في بناء العلاقات الصحيحة، المؤسسةعلى كتاب الله، وسنة رسوله:{ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَالَّذِينَ آمَنُوا…[10]}[سورة المجادلة].
ما معنى النجوى؟ يفصلها النبي صلىالله عليه وسلم، فيقول: [ إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِدُونَ صَاحِبِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ] رواه البخاري ومسلم-واللفظ له- .
قال العلماء:إن الشيطان يوسوس له ويقول له: إنهم يتكلمون فيك، ويستهدفونك فيكلامهم، فاشترط العلماء طلب الإذن قبل المناجاة إن كان هناك حاجة. بل قال بعضهم: إذا ظهرت على الأخ أمارات الريبة، فأبن له أطراف الموضوع إن كان سائغًا، حتى تطيبنفسه بأنه ليس له علاقة بالحديث، وأنه لن يذكر من بعيد، ولا قريب. . آداب نبوية لمنأراد أن يبني الأخوة على أسس صحيحة، وهكذا الأخ ينبغي عليه إذا ظن به ظناً أنيستعيذ بالله من الظنون السيئة.