مواقف متنوعة من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-


[SIZE=4]في يوم من الأيام وقبل وفاته بثلاثين عاماً حضر إلى مسجد؛ ليلقي فيه محاضرة، فلما شَعُر بأن المسجد مفروش بالحصير، وأن سجادةً قد وضعت له خاصة طواها بنفسه، وطرحها جانباً؛ لأنه لا يريد أن يتميز عن غيره.

ومن ذلك أن السيارة الممنوحة له ولأمثاله من قبل الدولة إذا انتهت مدتها، وأرادوا تغييرها بأحدث منها قال: وما عِلَّتُها فيقال له: انتهت مدتها؛ فماذا تريدون بدلاً عنها يا سماحة الشيخ ؟ فيَسْأَل: وما أنواع السيارات ؟ فيذكر له الكاديلاك، والمرسيدس، والفورد، والبيوك، وغيرها فيقول: والكابرس ؟ فيقال له: لا يليق بمقامك، فيقول: لماذا ؟ أليس القبر واحداً ؟!

طُلب من سماحة الشيخ تغيير أثاث بيته في مكة أكثر من مرة، وهو لا يستجيب، ويقول: لنا في هذا البيت ستة عشرة سنة، ولا ندري ماذا بقي من أعمارنا!.
ولما كثر عليه الإلحاح، وقيل له: إن أثاث المجلس غير صالح، وغير مناسب، وإن تغييره ضروري توقف كثيراً. وبعد إلحاح شديد أمر بتشكيل لجنة خماسية ذكرهم، وقال: اجتمعوا، واكتبوا ما ترونه، وحصل ذلك، وتم إصلاح ما يحتاج إلى إصلاح، وذلك في آخر أيامه رحمه الله .

وفي بيته الذي في الرياض دعت الحاجة إلى إيجاد بعض الغرف، فقلت له يا شيخ ! البيوت المعروضة للبيع في هذا الحي كثيرة، وأرى أن يشترى بيتٌ يكون لبعض العمالة الموجودة لديكم، وللضيوف، فتغير وجه سماحته، وقال: نحن مسافرون !!.
يعني السفر إلى الدار الآخرة.

ومن صور تواضُعِهِ تواضُعُهُ للمرأة والمسكين والسائل، وأذكر قبل ثلاثين سنة من وفاته أنني رأيته خارجاً من المسجد الجامع، فقيل له هناك امرأة تريد إجابة عن أسئلتها، فما كان منه إلا أن اتكأ على عصاه، وأصغى لها، وأجاب عن أسئلتها حتى انصرفت. !

ومن ذلك أنه في عام 1402هـ لما أصيب بمرض في القلب، ولازم الفراش في المستشفى التخصصي عدة أيام، وأجريت له الفحوصات اللازمة_أوصاه الأطباء بتناول بعض الأشياء، ومنعوه من بعضها ككثير الدهن، والملح، ثم وضعوا له طعاماً خاصاً.
فلما علم بذلك أبى، وقال: الذي يوضع لغيري يوضع لي، وما يحصل إلا الخير !.

وفي عرفة في حج عام 1418هـ كان جالساً في المصلى، ومئات الناس حوله، فجيء له بفاكهة مقطعة؛ لأن عادته في المشاعر في الحج أنه لا يأكل في الغالب إلا الفاكهة، والتمر، واللبن.
فلما وضع أمامه قال: أكُلُّ الحاضرين وضع لهم مثل هذا ؟
قالوا: لا، فقال: أبعدوه، وغضب.

حدثني بعض من عاش معه في الدلم لما كان قاضياً فيها أنه يهدى إليه من بعض جيرانه لبن فيقول سماحته: إن كان كثيراً فقدموه للضيوف، وإن كان قليلاً فلا أريد منه شيئاً.

وفي عام 1402هـ كان يلقي درساً في الحرم، فسئل: هل الأنثى مثل الذكر يحلق رأسها، ويوزن، ويُتصَدق بوزنه ورقاً ؟
فأجاب رحمه الله بقوله: ما عندي علم أَسْأَلُ إخواني طلبة العلم، وأخبركم إن شاء الله.

وفي يوم من الأيام اتصل شاب صغير بسماحة الشيخ، وقال: يا سماحة الشيخ ! الناس بأشد الحاجة إلى علماء يُفتُونهم، وأقترح على سماحتكم أن تجعلوا في كل مدينة مفتياً؛ ليسهل الاتصال.
فقال له سماحة الشيخ: ما شاء الله، أصلحك الله، كم عمرك ؟ فقال: ثلاثة عشر عاماً.
فقال لي سماحة الشيخ: هذا اقتراح طيب، يستحق الدراسة، اكتب إلى الأمين العام لهيئة كبار العلماء بهذا، فكتبتُ ما أملى به، ومما جاء في كتابه: أما بعد فقد اتصل بي بعض الناصحين، وقال: إنه يقترح وضع مفتين في كل بلد، ونرى عرضه على اللجنة الدائمة؛ لنتبادل الرأي في الموضوع.

مرة أرسل إليه أحد المسؤولين_جزاه الله خيراً_مبلغاً كبيراً، وقال: هذه هدية مني لسماحتكم فأخذه، ورأيت في وجهه الكراهة، وعجبت من أخذه إياه؛ إذ ليس ذلك من عادته؛ فشرع يوزع من ذلك المبلغ.
ولما كان الغد قال لي: اتصل بفلان_وهو يعمل عند ذاك المسؤول الذي أهدى المبلغ_وقل له يأتي؛ لأنني كرهت هذا المبلغ.
فلما اتصلت به، وأخبرته جاء إلى سماحة الشيخ فقال له سماحته: بلِّغ فلاناً شكري ودعائي له، وأخبره أنني بخير، ولست بحاجة إلى ذلك المبلغ، وقل له: إن كان يسمح بتوزيعه بين خواص الفقراء فلا بأس، وإلا أعطيناه المبلغ؛ وجزاه الله خيراً.
فلما وصل الخبر إلى المسؤول الذي أهدى المبلغ أذن بتوزيعه على نظر سماحته.

وقبل قرابة عشرين عاماً من وفاة سماحته لما انتهى بناءُ بيته الذي في الطائف أرسل إليه مسؤول كبير_جزاه الله خيراً_مبلغاً وقال هذه هدية مني لسماحتكم؛ لتأثيث المنزل.
فرده سماحته، وقال: نحن بخير، ولا نحتاج إلى شيء؛ وجزاك الله خيراً.
وأنا أعلم أن سماحته مدين، وأنه بحاجة، ولكنه غني القلب، عزيز النفس، لا ينظر إلى ما في أيدي الناس.

وقبل ما يقارب ثلاثين عاماً من وفاة سماحته هَمَّ ببيع بيته لما كثرت ديونه؛ فعلم بذلك بعض المسؤولين، وأرسل إليه بعض المال، وقال: بلغني أنك تريد بيع بيتك بسبب ضيق ما في يدك، وهذا مما كدرني؛ فآمل قبول هديتي، والإذن لي بإبلاغ جلالة الملك في هذا الشأن.
فأجابه سماحة الشيخ بالشكر والدعاء، وقال له: ما سمعتم من الحاجة صحيح كما لا يخفى من كثرة الضيوف والمحتاجين في الرياض والمدينة، ولكن لا أسمح بإبلاغ الملك، وشكره ودعا له دعاءً كثيراً.

ولما عاد سماحة الشيخ إلى منزله أُخبر الملك فيصل بأن الشيخ جاء بسيارة أجرة، فتكدر الملك كثيراً، وأرسل إلى سماحة الشيخ سيارة، وأخبره بتكدره.
ولما أخبر سماحة الشيخ بذلك قال: ردوها، لا حاجة لنا بها، سيارتنا تكفينا.
يقول الشيخ إبراهيم: فقلت: يا سماحة الشيخ هذه من الملك، وأنت تستحقها، فأنت تقوم بعمل عظيم، ومصلحة عامة، والذي أرسلها ولي الأمر، وإذا رددتها ستكون في نفسه، والذي أراه أن تقبلها.
فقال سماحة الشيخ: دعني أصلي الاستخارة، فصلى، وبعد الصلاة قال: لا بأس نأخذها، وكتب للملك ودعا له.

أحد المسؤولين الكبار عرض على سماحته الخروج للنزهة في وقت الربيع، فقال سماحة الشيخ: أنا لا أرغب الخروج، وليس من عادتي.
فقال له المسؤول: النفس تحتاج إلى الراحة، وتغيير الجو، وشم الهواء.
فقال سماحة الشيخ_ممازحاً_: الذي يرغب تغيير الجو، وشم الهواء النظيف يخرج إلى السطح ويكفيه ذلك.

في مرضه الأخير، وقبل وفاته بمدة يسيرة جداً توفي رجل من أهل الرياض اسمه سليمان الغنيم، وكان هذا الرجل مُسِنَّاً، محسناً، صالحاً، محباً لسماحة الشيخ، وله مكانة عند الشيخ؛ فاتصل أحد أبناء ذلك الرجل بسماحة الشيخ وقال: إن أبي قد توفي، ونأمل أن تُصَلُّوا عليه، وتحضروا جنازته، فقال الشيخ: إن شاء الله نفعل.
وبعد ذلك بقليل جاءه خبر وفاة الشيخ صالح بن غصون رحمه الله فذهب للصلاة على جنازة ابن غصون مع أن سماحته كان تحت وطأة مرضه الأخير، وكان متعباً جداً، وقد سقط في السيارة على من بجانبه، وتقيأ وهو في الطريق.
وبعد أن صلى على جنازة الشيخ ابن غصون رحمه الله وذهب لتعزية أهله، لم ينس الرجل المذكور الذي توفي في ذلك اليوم؛ بل ذهب إلى قبره وهو على تلك الحال من الإعياء، وصلى عليه بعد العصر، وبعد المغرب ذهب إلى أهل المتوفى، وعزاهم وصبَّرهم !!

[/size]http://www.binbaz.org.sa/mat/21362